باب غزوة الخندق: وهي الأحزاب 4
بطاقات دعوية
عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسواتها (740 - وفي رواية معلقة: ونوساتها) تنطف (62). قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين (63)، فلم يجعل لي من الأمر شىء. فقالت الحق؛ فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون فى احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس؛ خطب معاوية، قال: من كان يريد أن يتكلم فى هذا الأمر؛ فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه (64). قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتى (65)، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله فى الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت.
أمَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى عِبادَه المؤمِنينَ بالاعْتِصامِ بشَرْعِه وكِتابِه، ونَهاهم عنِ التَّفرُّقِ والاخْتِلافِ؛ ولذلك نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن خَلعِ بَيْعةِ الإمامِ والخُروجِ عليه؛ حِفاظًا على جَماعةِ المُسلِمينَ واتِّحادِهم.
وفي هذا الحَديثِ يُظهِرُ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما حِرْصَه على هذا الأصْلِ، حيث يُخبِرُ أنَّه دخَلَ على أُخْتِه أُمِّ المُؤمِنينَ حَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنها «ونَسْواتُها تَنْطُفُ»، وفي روايةٍ: «ونَوْسَاتُها»، وهي الأصَحُّ، أي: وضَفائِرُها تَقطُرُ الماءَ، فقال لها: قدْ كان مِن أمْرِ النَّاسِ ما تَرَيْنَ، فلم يُجعَلْ لي مِن الأمْرِ شَيءٌ، يُشيرُ إلى ما وقَعَ منِ اخْتِلافٍ بيْن عَليٍّ ومُعاوِيةَ رَضيَ اللهُ عنهما؛ مِنَ القِتالِ في صِفِّينَ واجْتِماعِهم على التَّحاكُمِ فيما اخْتَلَفوا فيه، وأنَّه لم يَكُنْ له شَيءٌ، ولا رَأيٌ، فكأنَّه يُشاوِرُها في اعْتِزالِ هذا المَوقِفِ، وقد كان المُتَخاصِمونَ راسَلوا أصْحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للاجْتِماعِ للتَّشاوُرِ في هذا الأمرِ، فشاوَرَ ابنُ عُمَرَ حَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنهم في الأمرِ، فأشارَتْ عليه بالذَّهابِ إليهم، وقالت له: وأَخْشى أنْ يَكونَ في عدَمِ ذَهابِكَ إليهم فُرْقةٌ بيْنهم ومُخالَفةٌ، وظَلَّت تَحُثُّه على الذَّهابِ حتَّى ذهَبَ إلى القَومِ في المَكانِ الَّذي كان فيه الحَكَمانِ، وحضَرَ ما وقَعَ بيْنَهم، وذهَبَ ابنُ عُمَرَ إليهم، ولَمَّا تفَرَّقَ النَّاسُ بعْدَ التَّحْكيمِ، وحصَل ما حصَل، وثبَتَ الأمرُ لمُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه، وقَفَ مُعاوِيةُ رَضيَ اللهُ عنه يَخطُبُ، فقال في خُطْبَتِه: «مَن كان يُريدُ أنْ يَتكَلَّمَ في هذا الأمرِ فلْيُطلِعْ لنا قَرْنَه»، وهذا كِنايةٌ عنِ الرَّأسِ، والمُرادُ أنْ يَظهَرَ مَن يَتزَعَّمُ هذا، ونحن نُحاجُّه بالحُجَجِ وغَيرِها، ثمَّ قال مُعاويةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فلَنحنُ أحَقُّ به منه ومِن أبيه»، وكأنَّه تَعْريضٌ منه بكُلِّ مَن كان يظُنُّ في نفْسِه أنَّه أحقُّ بالخِلافةِ منه، سَواءٌ كان ابنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أو غَيرَه، فقال التَّابِعيُّ حَبيبُ بنُ مَسْلَمةَ لابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما: «فهَلَّا أجَبْتَه»، فقال ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما: «فحَلَلْتُ حُبْوَتي»، والحُبْوةُ: ثَوبٌ يُلْقى على الظَّهرِ، ويُربَطُ طَرَفاهُ على السَّاقَيْنِ بعْدَ ضَمِّهما، وإنَّما حَلَّ حُبوَتَه لِيَتكلَّمَ، ويَرُدَّ على مُعاوِيةَ رَضيَ اللهُ عنه، وقد كان ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عزَمَ أنْ يقولَ له: إنَّ مَن قاتَلَكَ وأباكَ لتُسلِمَ أحَقُّ بهذا الأمرِ منكَ؛ قيلَ: يَقصِدُ علِيَّ بنَ أبي طَالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه وعن الصَّحابةِ أجْمَعينَ، ويَدخُلُ في هذه المُقاتَلةِ علِيٌّ وجَميعُ مَن شَهِدَها مِن المُهاجِرينَ، ومنهم عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ نفْسُه، ولعَلَّ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه كان رَأيُه في الخِلافةِ تَقديمَ الفاضِلِ في القوَّةِ والمَعرِفةِ والرَّأيِ، على الفاضِلِ في السَّبقِ إلى الإسْلامِ والدِّينِ؛ فلذا أطلَقَ أنَّه أحَقُّ، ورَأى ابنُ عُمَرَ خِلافَ ذلك؛ أنَّه لا يُبايَعُ المَفْضولُ إلَّا إذا خُشِيَ الفِتْنةُ، ولذا بايَعَ بعْدَ ذلك مُعاويةَ، ثمَّ ابنَه يَزيدَ، ونَهى بَنِيه عن نَقضِ بَيْعَتِه.
لكنْ خاف ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه إذا تكلَّمَ ثارَتِ الفِتْنةُ، وتَفرَّقَتِ الجَماعةُ، وسُفِكَ الدَّمُ، وحُمِلَ عنه غيرُ ما يُريدُه مِن الكَلامِ، فذكَرَ ثَوابَ اللهِ تعالَى في الآخِرةِ، وما أعَدَّه في الجنَّاتِ، فسَكَتَ، فقال له حَبيبُ بنُ مَسْلَمةَ: «حُفِظْتَ وعُصِمْتَ»، أي: حفِظَكَ اللهُ تعالَى وحَماكَ مِن الفِتْنةِ وإثارَتِها.