باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات 13
بطاقات دعوية
وعن أنس - رضي الله عنه - ، قال : قال أبو طلحة لأم سليم : قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ فقالت : نعم ، فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخذت خمارا لها ، فلفت الخبز ببعضه ، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذهبت به ، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، جالسا في المسجد ، ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أرسلك أبو طلحة ؟ )) فقلت : نعم ، فقال : (( ألطعام ؟ )) فقلت : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( قوموا )) فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم ، قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وليس عندنا ما نطعمهم ؟ فقالت : الله ورسوله أعلم . فانطلق أبو طلحة حتى لقي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه حتى دخلا ، فقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - : (( هلمي ما عندك يا أم سليم )) فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت ، وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته، ثم قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) فأذن لهم حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون . متفق عليه .
وفي رواية : فما زال يدخل عشرة ، ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل ، فأكل حتى شبع ، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها .
وفي رواية : فأكلوا عشرة عشرة ، حتى فعل ذلك بثمانين رجلا ، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وأهل البيت ، وتركوا سؤرا .
وفي رواية : ثم أفضلوا ما بلغوا جيرانهم .
وفي رواية عن أنس ، قال : جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، فوجدته جالسا مع أصحابه ، وقد عصب بطنه ، بعصابة ، فقلت لبعض أصحابه : لم عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه ؟ فقالوا : من الجوع ، فذهبت إلى أبي طلحة ، وهو زوج أم سليم بنت ملحان ، فقلت : يا أبتاه ، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصب بطنه بعصابة ، فسألت بعض أصحابه ، فقالوا : من الجوع . فدخل أبو طلحة على أمي ، فقال : هل من شيء ؟ قالت : نعم ، عندي كسر من خبز وتمرات ، فإن جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه ، وإن جاء آخر معه قل عنهم ... وذكر تمام الحديث .
لقد أحب الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبهم لأنفسهم، وجاهدوا معه حق الجهاد؛ إعلاء لكلمة الله، وتنفيذا لأمره، ومجاهدة لأعدائه، فأوذوا وصبروا ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة
وفي هذا الحديث جملة من معجزاته وبركاته صلى الله عليه وسلم؛ فيخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحفرون الخندق، وهو الحفرة العميقة والطويلة حول شيء معين، أو في جهة معينة، وقد حفره النبي صلى الله عليه وسلم شمال المدينة بعد أن أشار عليه سلمان الفارسي؛ لحمايتها من الأحزاب التي جمعتها قريش لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة
وفي أثناء حفرهم عرضت لهم كدية شديدة، أي: ظهرت لهم صخرة شديدة، لا يستطيعون كسرها، فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها، وكان بطنه صلى الله عليه وسلم مربوطا عليه حجر من شدة الجوع، وكان قد مر عليه وعلى أصحابه ثلاثة أيام لم يذوقوا فيها طعاما، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة وضربها بالمعول -وهو الحديدة التي ينقر بها الجبال- تحولت هذه الصخرة إلى كثيب أهيل -أو أهيم-، أي: صارت رملا غير متماسك
ولما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الحال التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى بيته، وقال لامرأته -واسمها سهيلة-: «رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا» من أثر الجوع، «ما كان في ذلك صبر»، أي: لا أقدر أن أصبر وأنا أرى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال، فهل عندك أي شيء للنبي صلى الله عليه وسلم يأكله؟ فقالت له: عندي شعير وعناق، والعناق: الأنثى من ولد المعز، فذبح جابر العناق وطحنت امرأته الشعير حتى صار دقيقا ليعجن ويخبز، وجعلا اللحم في البرمة، وهو القدر الذي يطبخ فيه اللحم، حتى إذا لان العجين ورطب وتمكن منه الخمير، والبرمة -أي: ما فيها من الطعام- كادت أن تنضج وهي بين الأثافي، وهي الحجارة توضع تحت القدر عندما يوقد عليه النار، فذهب جابر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الطعام، وقال له: «طعيم لي»، أي: إني أعددت طعاما يسيرا، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم هو ورجل أو رجلان، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: «كم هو؟» فأخبره جابر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كثير طيب»، وأمره ألا ترفع امرأته القدر من فوق الأثافي، ولا الخبز من التنور -وهو الفرن الذي يخبز فيه، وكان يصنع من الطين- حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع المهاجرين والأنصار الموجودين عند الخندق؛ لتناول الطعام معه عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فلما ذهبوا إلى بيت جابر، دخل على امرأته وقال: ويحك! -وهي كلمة رحمة وتوجع- جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، فقالت له زوجته: «هل سألك؟» تعني: هل سألك النبي صلى الله عليه وسلم عن قدر الطعام؟ فقال لها: نعم. وفي رواية أخرى في الصحيحين: «فأخرجت له عجينا، فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك»، أي: أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة في اللحم وفي الخبز. ثم دخل صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه بالدخول وقال لهم: «لا تضاغطوا»، أي: لا تزدحموا، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويغطي البرمة والتنور إذا أخذ منهما، ويقرب إلى أصحابه، وظل كذلك حتى شبع الصحابة جميعهم، ثم بقي بعد كل ذلك طعام، وفي رواية في الصحيحين بين عدد الآكلين أنهم ألف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر: «كلي هذا وأهدي»، أي: كلي ما يشبعك أنت وزوجك، ثم أهدي للناس؛ لأن الناس أصابتهم مجاعة وشدة.
وفي الحديث: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشدة وضيق العيش.
وفيه: فضل جابر وامرأته رضي الله عنهما، ووفور عقلها، وكمال فضلهما.
وفيه: علامة ظاهرة من علامات النبوة.
وفيه: أهمية الأخذ بالأسباب.