باب في المكثرين5

سنن ابن ماجه

باب في المكثرين5

حدثنا الحسن بن حماد، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يف" (2)

أشْقَى النَّاسِ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَه هَواهُ وشَهوَتَه، فيَكونُ عَمَلُه كُلُّه لِتَحصيلِ هذه الشَّهوةِ وطَلَبِها؛ فهو تارِكٌ مَا خُلِقَ لِأجْلِه، وهو عِبادةُ اللهِ تَعالى، مُتمَسِّكٌ بتَحصيلِ شَهَواتِه بغَيرِ رِضا اللهِ تَعالى، فهو مُضَيِّعٌ لِآخِرَتِه بدُنياه. وأسعَدُ الناسِ مَن عاشَ للهِ عَزَّ وجَلَّ، طالِبًا رِضاه، وما أعَدَّه سُبحانَه لِلصَّالِحينَ مِن عِبادِه.
وفي هذا الحَديثِ تَحذيرٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِكُلِّ مُؤمِنٍ مِن أنْ يَكونَ عَبدًا لِشَهَواتِه، وحَثٌّ على أنْ يَعيشَ المُؤمِنُ حَياتَه للهِ، وفي سَبيلِه سُبحانَه. فيَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ، وعَبدُ الدِّرهمِ، وعَبدُ الخَميصةِ»، يَعني: عَثُرَ وسَقَطَ على وَجْهِه، والدِّينارُ مِنَ الذَّهَبِ، والدِّرهَمُ مِنَ الفِضَّةِ، والخَميصةُ: كِساءٌ أسوَدُ مُربَّعٌ، له خُطوطٌ، وسَبَبُ الدُّعاءِ عليه أنَّه: إنْ أُعطيَ مُرادَه مِنَ المالِ واللَّذَّاتِ رَضيَ عنِ اللهِ تَعالى، وإنْ مُنِعَ كانَ ساخِطًا غاضِبًا. ويُكَرِّرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدُّعاءَ لِلتَّنفيرِ مِنَ الاتِّصافِ بمِثلِ هذه الصِّفةِ، فيَقولُ: «تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ»، أي: تَعِسَ وانقَلَبَ على رَأْسِه، وهو دُعاءٌ عليه بالخَيبةِ والخُسرانِ، وإذا أصابَتْه شَوكةٌ فَلا قَدِرَ على إخراجِها بالمِنقاشِ، ولا خَرَجتْ، والمُرادُ أنَّه إذا أُصيبَ بأقَلِّ أذًى لا يَجِدُ مُعينًا على الخَلاصِ منه.
ثمَّ أثْنى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على العَبدِ التَّقيِّ الخَفيِّ المُجاهِدِ، فقال: «طُوبَى لِعَبدٍ آخِذٍ بعِنانِ فَرَسِه في سَبيلِ اللهِ»، أي: مُنطَلِقٍ بفَرَسِه آخِذٍ بلِجامِه مُجاهِدًا ومُقاتِلًا في سَبيلِ اللهِ، لا يَأْبَهُ لِلدِّينارِ والدِّرهَمِ، ولا يَسعَى في طَلَبهما، و«طُوبَى» هو اسْمٌ لِلجَنَّةِ، وقيلَ: شَجَرةٌ فيها؛ فيَكونُ المُرادُ الدُّعاءَ له بالجَنَّةِ؛ لأنَّ «طُوبَى» أشهَرُ شَجَرِها وأطيَبُه. «أشْعَثَ رَأْسُه»، أي: مُتفَرِّقِ الشَّعرِ، غَيرِ مُسَرَّحٍ، «مُغبَرَّةٍ قَدَماه» بالتُّرابِ، إنْ أُقِيمَ في مُتقَدِّمِ الجَيشِ لِحراسَتِه رَضيَ وقامَ، وإنْ أُقيمَ في السَّاقةِ -وهي مُؤخِّرةُ الجَيشِ- رَضيَ وقامَ، ولا يَضُرُّه شَيءٌ مِن ذلك؛ مُبتَغيًا الأجْرَ مِنَ اللهِ تعالَى، وهو خامِلُ الذِّكرِ ليس له مَكانةٌ بيْنَ النَّاسِ، ولا يَسعى لِنَيْلِ وَجاهةٍ بيْنَهم، فإنِ استأذَنَ لم يُؤذَنْ له، وإنْ شَفَعَ في أحَدٍ لم تُقبَلْ شَفاعَتُه؛ لأنَّهُ غَيرُ مَعروفٍ بيْنَهم، ولكِنَّ قَدْرَه عِندَ اللهِ كَبيرٌ، وأجْرَه عِندَ اللهِ مَحفوظٌ.
وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن غُرورِ الدُّنيا واتِّباعِ الهَوى.
وفيه: تَرْكُ حُبِّ الرِّياسةِ والشُّهرةِ، وفَضلُ الخُمولِ والتَّواضُعِ.