باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن 3
بطاقات دعوية
عن علقمة قال: كنا جلوسا مع ابن مسعود، فجاء خباب، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرءوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت (181) بعضهم يقرأ عليك. قال: أجل. قال: اقرأ يا علقمة! فقال زيد بن حدير -أخو زياد بن حدير-: أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ قال: أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فى قومك وقومه (182)! فقرأت خمسين آية من {سورة مريم}، فقال عبد الله: كيف ترى؟ قال: قد أحسن. قال عبد الله: ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه. ثم التفت إلى خباب، وعليه خاتم من ذهب، فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى؟ قال: أما إنك لن تراه على بعد اليوم، فألقاه.
النَّاسُ مَعادِنُ، فخِيارُهم في الجاهِليَّة خِيارُهم في الإسْلامِ إذا فَقِهوا، ومَعْلومٌ أنَّه لا خِيارَ في الإسْلامِ إلَّا بالتُّقى والفِقهِ، ولا فَضيلةَ إلَّا بخِصالِ الشَّرِيعةِ، لكنْ مَنِ اتَّفَقَ له معَ ذلك حَميدُ الأخْلاقِ، وشَريفُ الطِّباعِ، وهو الحسَبُ؛ كمَلَتْ فَضيلَتُه، وعَلَتْ مَرتبَتُه.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ عَلْقَمةُ بنُ قَيسٍ أنَّه كان جالِسًا عندَ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه هو ومَجْموعةٌ مِنَ الشَّبابِ، والمُرادُ بهم طُلَّابُ العِلمِ، والمُتلَقُّونَ له مِن التَّابِعينَ عن بنِ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، فدخَلَ عليهم الصَّحابيُّ خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ رَضيَ اللهُ عنه، فسَألَه خَبَّابٌ: هلْ يَستَطيعُ أحدُ هؤلاء الشَّبابِ أنْ يَقْرأَ القُرآنَ مِثلَ قِراءتِكَ يا ابنَ مَسْعودٍ؟ فردَّ عليه ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّه لو شِاءَ خَبَّابٌ، لَأمَرَ ابنُ مَسعودٍ واحدًا منهم أنْ يَقْرأَ عليه، فقال خَبَّابٌ رَضيَ اللهُ عنه: نَعَمْ، فأمَرَ ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه عَلْقَمةَ بنَ قَيْسٍ بالقِراءةِ لِيَرى خَبَّابٌ قِراءَتَه. فأنْكَرَ التَّابِعيُّ زَيدُ بنُ حُدَيرٍ أنْ يَأمُرَ ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه عَلْقَمةَ بالقِراءةِ، وقال له: أتأمُرُ عَلْقَمةَ أنْ يَقْرأَ وليس بأقْرَئِنا؟! وكان زَيدٌ هذا أخو زيادِ بنِ حُدَيرٍ مِن كِبارِ التَّابِعينَ، وممَّن أدرَكَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه.
فرَدَّ عليه ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَو أرادَ زَيدُ بنُ حُدَيرٍ أنْ يُخبِرَه ابنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه بما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قَومِه -وهمْ بَنو أسَدٍ- وقَومِ عَلْقَمةَ -وهمُ النَّخَعُ- لَفَعَلَ، وقدْ كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَثْنى على النَّخَعِ، وذَمَّ بَني أسَدٍ، فأمَّا ثَناؤُه على النَّخَعِ؛ فقدْ أخرَجَ الحَديثَ الإمامُ أحمَدُ في مُسنَدِه، عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: «شهِدْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعو لهذا الحَيِّ منَ النَّخَعِ -أو قال: يُثْني عليهم- حتَّى تَمنَّيْتُ أنِّي رَجلٌ منهم»، وأمَّا ذمُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لبَني أسَدٍ، ففي الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَأسْلَمُ، وغِفارُ، وشَيءٌ مِن مُزَيْنةَ، وجُهَيْنةُ، أو شَيءٌ من جُهَيْنةَ، ومُزَيْنةُ؛ خَيرٌ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ، مِن أسَدٍ، وغَطَفانَ، وهَوازِنَ، وتَميمٍ».
ثمَّ قَرأَ عَلْقَمةُ خَمْسينَ آيةً مِن سورةِ مَريمَ، وبعدَ الانْتِهاءِ منها سألَ ابنُ مَسْعودٍ خَبَّابًا رَضيَ اللهُ عنهما عن رَأيِه في قِراءةِ عَلْقَمةَ، فقال: قد أحْسَنَ، فقال ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: ما أقْرأُ شَيئًا إلَّا وهو يَقرَؤُه، وهذا تَأكيدٌ على حِفظِ عَلْقَمةَ ونُبوغِه في التِّلاوةِ.
ثمَّ الْتَفَتَ ابنُ مَسْعودٍ لخَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضيَ اللهُ عنهما -وكان يَلبَسُ خاتَمًا مِن ذَهَبٍ- فقال له: ألم يَجِئْ وَقْتُ إلْقاءِ هذا الخاتَمِ؟! فقال خَبَّابٌ رَضيَ اللهُ عنه: أمَا إنَّكَ لنْ تَراه عَليَّ بعْدَ اليومِ، فألْقَاه. ولُبْسُ خَبَّابٍ رَضيَ اللهُ عنه الخاتَمَ مِن الذَّهَبِ، يُحمَلُ على أنَّه لم يَبلُغْه التَّحْريمُ؛ لأنَّ بَعضَ الصَّحابةِ كان يَخْفى عليه بعضُ ما أمَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن لُبْسِ الذَّهَبِ للرِّجالِ.
وفيه: الرِّفْقُ في المَوْعِظةِ، وتَعْليمُ مَن لا يَعلَمُ.
وفيه: مَنْقَبةٌ عَظيمةٌ لعَلْقَمةَ؛ فقدْ شَهِدَ له ابنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنه أنَّه مِثلُه في القِراءةِ.