باب: كراهية استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم -
بطاقات دعوية
عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين قال لي وللفضل بن عباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما يصيب الناس قال فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكرا له ذلك فقال علي لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فانتحاه (1) ربيعة ابن الحارث فقال والله ما تصنع هذا إلا نفاسة (2) منك علينا فوالله لقد نلت صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما نفسناه عليك قال علي أرسلوهما فانطلقنا (3) واضطجع علي قال فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال أخرجا ما تصرران (4) ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه قال وجعلت زينب تلمع (5) علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه قال ثم قال إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال فجاآه فقال لمحمية أنكح هذا الغلام ابنتك (للفضل بن عباس) فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث أنكح هذا الغلام ابنتك (لي) فأنكحني وقال لمحمية أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا قال الزهري ولم يسمه لي. (م 3/ 118)
شرَّفَ اللهُ سُبْحانَه وتَعالَى نبيَّه وأهْلَ بَيتِه المؤمِنينَ من كُلِّ الأدْرانِ والأوْساخِ تَكريمًا لهم، ومن ذلك أنَّ الصَّدَقاتِ محرَّمةٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلى أهْلِ بيتِه، فلا يأخُذونَ منها ولا يَقبَلونَها.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبدُ المطَّلبِ بنُ رَبيعةَ بنِ الحارِثِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَبيعةَ بنَ الحارِثِ ابنَ عمِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، اجتَمَعَ هو وعمُّه العبَّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ عمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالا: واللهِ لو أرْسَلْنا هذينِ الغُلامَينِ -يُريدانِ: عبدَ المُطَّلِبِ بنَ ربيعةَ والفَضلَ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهم- إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكلَّماه، فجَعَلَهما عامِلَينِ على جِبايةِ الصَّدقاتِ، فأدَّيَا ما يُؤدِّي النَّاسُ، وأصابَا ممَّا يُصيبُ النَّاسُ مِن أُجْرةِ العمَلِ على الصَّدقةِ، رغبةً أنْ يُعينَهما بهذا المالِ على الزَّواجِ، حيث إنَّهما بلَغَا سنَّ الزَّواجِ، وليس عندَهما ما يُعينُهما عليه، كما في رِوايةِ أبي داودَ، فبيْنَما العبَّاسُ ورَبيعةُ رَضيَ اللهُ عنهما يَتكلَّمانِ ويَتَشاوَرانِ في ذلكَ إذ جاء عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه وهو ابنُ عمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا، فوقَفَ عندَهما، فذكَرَا له ما تَشاوَرا فيه، وأخْبَراه بما يَنْويانِ فِعلَه، فنَهاهما عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه عن فِعلِ ذلك، وأقسَمَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لن يَستجيبَ لهم في أمْرِهم هذا، فتوَجَّهَ ربيعةُ ناحيةَ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وقصَدَه بالكلامِ الشَّديدِ، وأقسَمَ أنَّه ما يمنَعُهم من إرْسالِ الغُلامَينِ وسُؤالِهما له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَجعَلَهما أُمراءَ على الصَّدَقاتِ، إلَّا حسَدًا واسْتِبدادًا وإيثارًا منه عليهم برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ أقسَمَ باللهِ لعَليٍّ أنَّه قد فازَ بالمُصاهَرةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -يقصِدُ زواجَه رَضيَ اللهُ عنه منَ ابنتِه فاطمةَ رَضيَ اللهُ عنها- فما حسَدوه على ذلك، فلمَّا سمِعَ عليٌّ رَضيَ اللهُ عنه ذلك منه، أمَرَهما أنْ يُرسِلوهما ليَعرِفوا ويَتأكَّدوا صِدقَ نَصيحتِه لهم، «واضْطَجَعَ عَلِيٌّ»، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسلِمٍ: «فألْقى عليٌّ رداءَه، ثُمَّ اضطَجَعَ عليه، وقال: أنا أبو حَسنٍ القَرْمُ، واللهِ، لا أَريمُ مَكاني حتَّى يرجِعَ إليكما ابْناكما، بحَوْرِ ما بَعَثْتُما به إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» والقَرْمُ: الفَحلُ منَ الحَيوانِ، ويُرادُ به مَن يكونُ سيِّدًا، ومَن يكونُ له رأيٌ ومعرفةٌ، أَريمُ: أترُكُ، الحَوْرُ: الجوابُ، ويَعني رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ هذا الكلامَ الَّذي قُلتُه لكم عن عِلمٍ، وأنا لن أتحرَّكَ من مَكاني، وسأنتَظِرُ الجوابَ الَّذي يأْتيانِ به من عندِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو يعلَمُ أنَّ الجوابَ سيكونُ بمثلِ ما أخبَرَهما.
فانطلَقَ عبدُ المطلَّبِ والفَضلُ رَضيَ اللهُ عنهما، وذَهَبا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُخبِرُ عبدُ المطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا صلَّى الظُّهرَ سبَقَاه بالذَّهابِ إلى الحُجرةِ الَّتي سيَدخُلُها بعدَ صَلاتِه، وهي حُجرةُ أمِّ المؤمِنينَ زَينبَ بنتِ جَحشٍ رَضيَ اللهُ عنها، وانْتَظَراه عندَ بابِها، حتَّى جاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأمسَكَ بآذانِهما مُداعَبةً لهما، ثمَّ قال: «أخْرِجا ما تُصرِّرانِ»، أي: ما تَجمَعانِه في صُدورِكما مِنَ الكلامِ، ثُمَّ دخَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُجرتَه، ودخَلَا عليه ليُتابِعا كَلامَهما ويَسمَعَ منهما، فأرادَ كلُّ واحدٍ منهما أنْ يَبتدئَ الآخَرُ بالكلامِ معَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَيبةً منه، ثمَّ تكلَّمَ أحدُهما، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا رسولَ اللهِ، أنتَ أبرُّ النَّاسِ»، أي: أكثَرُ النَّاسِ برًّا وإحْسانًا إلى الغيرِ، «وأوصَلُ النَّاسِ»، أي: أكثَرُ النَّاسِ صلةً للرَّحمِ، «وقد بلَغْنا» سِنَّ «النِّكاحِ»، يَعرِضانِ بذلك سببَ مَطالِبِهمُ الآتيةِ، «فجِئْنا لتُؤمِّرَنا» وتوَلِّيَنا على جَمعِ «بعضِ هذه الصَّدقاتِ»، وهي الزَّكَواتُ من جميعِ أرْبابِ الأمْوالِ وأخْذِها منهم وحِسابِها وحِفظِها وجِبايَتِها إليكَ وتَفرقَتِها على المُستحِقِّينَ، «فنؤدِّيَ إليكَ كما يؤدِّي النَّاسُ»، أي: نُوصِّلَ لكَ ونُسلِّمَكَ الصَّدقاتِ مثلَ غيرِنا، «ونُصيبَ كما يُصيبونَ» مِن أُجْرةِ العمَلِ على الصَّدقةِ، فسكَتَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طويلًا حتَّى أرَادا أنْ يُعيدَا الكلامَ والطَّلبَ إليه، وجعَلَتْ زينبُ بنتُ جَحشٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنها تُشيرُ إليهما بثَوبِها، أو بيَدِها مِن وراءِ الحجابِ أنْ لا تُكلِّماه، ثمَّ بعدَ سُكوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سكوتًا طويلًا، بيَّنَ لهما أنَّ الصَّدقةَ لا تَنْبغي لآلِ محمَّدٍ، أي: تحرُمُ عليه وعلى آلِه، سواءٌ أكان بسببِ العملِ، أو بسببِ الفقرِ والمَسكَنةِ وغيرِهما؛ «فإنَّما هي أوْساخُ النَّاسِ»، أي: هي تَطْهيرٌ لأمْوالِهم من إثْمِ الكنزِ وأنفُسِهم من إثْمِ البُخلِ، أو إنَّها أوْساخُ النَّاسِ؛ لأنَّها تُكفِّرُ الخَطايا وتدفَعُ البَلاءَ وتقَعُ فِداءً عنِ العَبدِ في ذلك، ثمَّ أمَرَهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدْعُوَا له مَحْمِيةَ بنَ جَزْءِ بنِ عبدِ يَغوثَ الزُّبيديَّ رَضيَ اللهُ عنه، وهو رجُلٌ مِن بَني أسَدٍ، وكان عاملًا للنَّبيِّ على الخُمُسِ منَ الفَيءِ، ويَدْعوَا نَوفَلَ بنَ الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلِب، وهو أخو رَبيعةَ بنِ الحارِثِ، فجاء مَحْميةُ ونَوفَلُ وحَضَرا عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَحْميةَ بنَ جَزْءٍ أنْ يُنكِحَ ابنتَه ويُزوِّجَها للفَضلِ بنِ عبَّاسٍ، ففعَلَ مَحْميةُ رَضيَ اللهُ عنه، وأمَرَ نَوفَلَ بنَ الحارثِ أنْ يُنكِحَ ابنتَه ويُزوِّجَها لرَبيعةَ بنِ الحارثِ، ففعَلَا رَضيَ اللهُ عنهما، وكان مَحْميةُ رَضيَ اللهُ عنه يَتوَلَّى أمرَ إنْفاقاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منَ الخُمُسِ، فأمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يؤديَ عن كلٍّ منهما صَداقَ زَوجتِه بقَدرٍ عَيَّنَه له منَ الخُمُسِ، والمرادُ به: حقُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الغَنيمةِ، كما في قولِ اللهِ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
وفي الحَديثِ: دفعُ الصَّدقاتِ إلى الإمامِ ووَليِّ الأمرِ.
وفيه: تواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبَشاشتُه ومُداعبتُه وعَطفُه على الصَّغيرِ.
وفيه: تَقديمُ الثَّناءِ على طلَبِ الحاجةِ.
وفيه: النَّهيُ عنِ الصَّدقةِ لآلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: عدَمُ استِعمالِ آلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لتَحْصيلِ الصَّدقةِ والزَّكاةِ.
وفيه: السَّعيُ في تَحصيلِ مُؤَنِ النِّكاحِ.
وفيه: بيانُ اهْتمامِ الوالِدِ بتَزْويجِ وَلَدِه حتَّى يحصِّنَه.
وفيه: بيانُ فَضلِ عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه حيث كان أعلَمَ بالمسألةِ دونَ هؤلاء الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم.
وفيه: كمالُ أدَبِ زَينبَ رَضيَ اللهُ عنها حيث أشارَتْ على الغُلامَينِ بعدمِ إعادةِ الكَلامِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.