باب ما جاء فى لبس الحرير
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد تباع فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إنما يلبس هذه من لا خلاق له فى الآخرة ».
ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب منها حلة فقال عمر يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت فى حلة عطارد ما قلت. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إنى لم أكسكها لتلبسها ». فكساها عمر بن الخطاب أخا له مشركا بمكة.
الإسلام دين اليسر في غير معصية، وقد أخذ الصحابة الكرام الهدي الحسن، والسمت الصالح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو القدوة الحسنة، وكلامه وفعله هو المرجع
وفي هذا الحديث يخبر عبد الله بن كيسان مولى أسماء بنت أبي بكر: أن أسماء رضي الله عنها أرسلته إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تسأله عن ثلاثة أشياء، بلغها أن ابن عمر رضي الله عنهما يحرمها، وظاهر الأمر عندها أنها غير محرمة، وهذه الثلاثة هي: «العلم في الثوب»، أي: الشريط في الثوب إذا كان من حرير، «وميثرة الأرجوان» والميثرة: نوع من أنواع الفرش الزائدة، وكانت تصنعها العجم؛ لتوضع تحت الراكب على الدواب مثل السرج، وكانت تصنع من الحرير وتحشى بالقطن، والأرجوان شديد الحمرة، وكان عبد الله بن عمر ينهى عنها، والثالث: أنه كان رضي الله عنه ينهى عن صيام شهر رجب كاملا
فأجاب ابن عمر رضي الله عنهما عما نسب إليه من نهيه عن صيام رجب كاملا بقوله: «فكيف بمن يصوم الأبد؟!»، كأن ابن عمر ينكر عليها قولها بفعله، وأنه يصوم السنة والدهر كله؛ فكيف يحرم صيام رجب وهو يصوم الدهر كله؟! والمراد بالأبد هنا ما سوى أيام العيدين والتشريق، وهذا تكذيب لمن نقل عنه ذلك، وإخبار منه أنه يصومه كله
وأجاب عن نهيه عن العلم أو الشريط الحرير يكون في الثياب؛ بما سمعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له»، أي: لا يلبس الحرير إلا من لا حظ ولا نصيب له من الأجر والثواب في الآخرة، وقيل: من لا حرمة له، وقيل: الذي لا دين له، فخشي ابن عمر رضي الله عنهما أن يأخذ شريط الحرير حكم لبس الحرير في التحريم، وهذا تصريح منه أنه لم يحرمه، بل تورع عنه؛ خشية دخوله في عموم النهي عن الحرير، وقد ورد في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيه؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام».
وأجاب عما نسب إليه من تحريم السرج شديدة الحمرة بقوله: فهذه ميثرتي أمامك، وهي مصبوغة، وشديدة الحمرة، والمراد أنها حمراء، وليست من حرير، بل من صوف أو غيره، والأحاديث الواردة في النهي عنها مخصوصة بالتي هي من الحرير
فرجع عبد الله مولى أسماء إليها، فأخبرها برد ابن عمر رضي الله عنهما عن أسئلتها، فقالت أسماء: «هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم»، الجبة مثل العباءة، وهي ما يلبس فوق غيره من الثياب، والمقصود: وهذه عباءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجت أسماء إلى عبد الله مولاها، «جبة طيالسة كسروانية»، والطيالسة جمع طيلسان، وهو ما يعم سائر الجسد، وقيل: الثوب الذي له أعلام، أي: به شريط من حرير، وكسروانية نسبة إلى كسرى ملك الفرس، أي: مثل التي يلبسها أهل فارس، والمقصود عباءة كبيرة تعم سائر الجسد مثل عباءات أهل فارس، «لها لبنة ديباج»، أي: مرقعة بالحرير عند فتحة الرقبة، ورأى فتحتيها محلتين ومخيطتين بالحرير، وكانت لها فتحتان من الأمام ومن الخلف؛ ليسهل لبسها في الرأس، ومعنى الثوب المكفوف أنه جعل له كفة، وهو ما يجعل إطارا في الأطراف والجوانب، ويثنى عليه؛ لحمياته وتجميله، ويكون ذلك في طرف الذيل، وفي الفرجين، وفي الكمين، وإخراجها لجبة النبي صلى الله عليه وسلم المكفوفة بالحرير قصدت به بيان أن هذا ليس محرما إذا كان بهذا القدر اليسير، ثم أخبرته أسماء رضي الله عنها أن الجبة ظلت عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، فلما ماتت عائشة رضي الله عنها أخذت أسماء رضي الله عنها جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتفظت بها عندها، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس تلك الجبة، «فنحن نغسلها للمرضى، يستشفى بها» فنلتمس بركة النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الجبة في شفاء مرضانا، وقيل: تغسل الجبة، ويشرب المرضى ماء غسلها
وفي الحديث: النهي عن لبس ثياب الحرير الخالص
وفيه: بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في مراجعة بعضهم بعضا في المسائل الشرعية وتصويب المفاهيم