‌‌باب ما جاء في الإحسان والعفو

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الإحسان والعفو

حدثنا بندار، وأحمد بن منيع، ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه؟ قال: «لا، أقره» قال: ورآني رث الثياب، فقال: «هل لك من مال؟» قلت: من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم، قال: «فلير عليك»: وفي الباب عن عائشة، وجابر، وأبي هريرة، وهذا حديث حسن صحيح وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الجشمي ومعنى قوله اقره: أضفه، والقرى: هو الضيافة
‌‌

الإسلامُ دِينُ التَّوحيدِ، وإفرادِ اللهِ سُبحانَه بالعِبادةِ والطَّاعةِ، وقد كان أهلُ الجاهِليَّةِ يَفعَلونَ ما يُنافي هذا التَّوحيدَ، وكانوا يُشرِكونَ مع اللهِ آلِهةً وطَواغيتَ، ويُقدِّمونَ لها القَرابينَ والنُّذورَ والطَّاعاتِ، فجاءَ الإسلامُ ونَهى عن هذه الأفعالِ الشِّركيَّةِ، وجَعَلَ شَرطَ العِبادةِ أنْ تَكونَ خالِصةً للهِ الخالِقِ. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ مالِكُ بنُ نَضلةَ الجُشَميُّ رَضيَ اللهُ عنه: "أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا قَشِفُ الهَيئةِ" في هَيئةٍ رَثَّةٍ غَيرِ نَظيفةٍ، وثِيابٍ باليةٍ "فقال: هل لكَ مالٌ؟" يَسألُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن كَونِه غَنيًّا أو فَقيرًا، مُقارَنةً بحالَتِه التي يَظهَرُ فيها، فقال: "قال: قُلتُ: نَعَمْ. قال: مِن أيِّ المالِ؟ قال: قُلتُ: مِن كُلِّ المالِ؛ مِنَ الإبِلِ والرَّقيقِ، والخَيلِ والغَنَمِ" فأظهَرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه غَنيٌّ ويَتنَوَّعُ عِندَه المالُ؛ كالإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ ونَحوِها، "فقال: إذا آتاكَ اللهُ مالًا، فلْيُرَ عليكَ" أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُظهِرَ نِعمةَ اللهِ عليه في مَظهَرِه وثِيابِه، والمَعنى: البَسْ ثَوبًا جَديدًا وجَيِّدًا، والأمْرُ الذي في قَولِه: (فلْيُرَ عليكَ)، مِن جُملةِ الشُّكرِ لها، ولِيَعرِفَ الناسُ أنَّكَ غَنيٌّ، ولِيَقصِدَكَ المُحتاجونَ؛ لِطَلَبِ الزَّكاةِ، والصَّدَقاتِ، وقيل: هذا في تَحسينِ الثِّيابِ بالتَّنظيفِ، والتَّجديدِ عِندَ الإمكانِ، مِن غَيرِ أنْ يُبالِغَ في التَّنعُّمِ والرِّقَّةِ؛ حتى لا يَقَعَ في لُبسِ ثيابِ الشُّهرةِ.

ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "هل تُنتِجُ إبِلُ قَومِكَ صِحاحًا آذانُها" بمَعنى: أنَّ الإبِلَ في الأصلِ تَكونُ صَحيحةً سَليمةَ الأُذُنِ غَيرَ مَجروحةٍ أو مَقطوعةٍ، "فتَعمِدُ إلى موسى فتَقطَعُ آذانَها" على عادةِ أهلِ الجاهِليَّةِ "فتَقولُ: هذه بَحرٌ" جَعَلتُها بَحرًا وبَحيرةً، والبَحيرةُ هي الناقةُ التي كانتْ في الجاهِليَّةِ إذا وَلَدتْ خَمسةَ أبطُنٍ شَقُّوا أُذُنَها، وتَرَكوا الحَملَ عليها، ولم يَركَبوها، ولم يَجُزُّوا وَبَرَها، ولم يَمنَعوها الماءَ والكَلَأ؛ تَقرُّبًا لِلأصنامِ "وتَشُقُّها" في آذانِها "أو تَشُقُّ جُلودَها" في جُزءٍ منها في جانِبِها "وتَقولُ: هذه صُرُمٌ، وتُحرِّمُها عليكَ وعلى أهلِكَ؟" والصُّرُمُ جَمعُ صَرِيمٍ، وهو القَطعُ، والمَعنى أنَّها مَصرومةٌ ومَقطوعةٌ لا يَنتَفِعُ بها أهلُها؛ تَقرُّبًا لِلأصنامِ، قال مالِكُ بنُ نَضلةَ الجُشَميُّ: "نَعَمْ"، أي: إنَّه كان يَفعَلُ ذلك "قال: فإنَّ ما آتاكَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لكَ" فهو لكَ سَليمٌ مُعافًى، يُبيِّنُ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انتِفاءَ عاداتِ الجاهِليَّةِ، وأنَّ كُلَّ مالِ الإنسانِ حَلالٌ له، ولا يَحرُمُ عليه منه شَيءٌ، ثم قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُبيِّنًا له خَطأ هذا الفِعلِ: "وساعِدُ اللهِ أشَدُّ، وموسى اللهِ أحَدُّ -ورُبَّما قال: ساعِدُ اللهِ أشَدُّ مِن ساعِدِكَ، وموسى اللهِ أحَدُّ مِن موساكَ-" والمَعنى: لو شاءَ اللهُ أنْ يَخلُقَها ناقِصةَ الأُذُنِ أو مَشقوقَتَها لَفَعلَ، ولكِنَّه خَلَقَها كامِلةَ الأعضاءِ؛ فلا يَجوزُ أنْ تَعمِدَ إلى تَشويهِها وقَطعِ عُضوٍ منها، "قال: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أرأيتَ رَجُلًا نَزَلتُ به" ضَيفًا "فلم يُكرِمْني، ولم يَقْرِني" فلم يُقدِّمْ لي واجِبَ الضِّيافةِ مِنَ الزَّادِ والرَّاحةِ وغَيرِهما، "ثم نَزَلَ بي" ضَيفًا بَعدَ ذلك "أجزيه بما صَنَعَ أم أقريه؟" فهل أُعامِلُه بالمِثلِ فلا أُكرِمُه ولا أُقدِّمُ له واجِبَ الضِّيافةِ، أم أُكرِمُه وأُعامِلُه بالإحسانِ والفَضلِ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اقْرِه" بل أكرِمْه بالطَّعامِ والشَّرابِ والتَّرحابِ، وقابِلْ سَيِّئتَه بإحسانِكَ. وهذا مِن حُسنِ التَّربيةِ على حُسنِ المُعامَلةِ، ورَدِّ السَّيِّئةِ بالحَسَنةِ؛ حتى تَنمَحيَ آثارُ الشَّحناءِ مِنَ النُّفوسِ.