‌‌باب ما جاء في الشقاء والسعادة2

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الشقاء والسعادة2

حدثنا الحسن بن علي الحلواني قال: حدثنا عبد الله بن نمير، ووكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينكت في الأرض إذ رفع رأسه إلى السماء ثم قال: " ما منكم من أحد إلا قد علم ـ وقال وكيع: إلا قد كتب ـ مقعده من النار ومقعده من الجنة "، قالوا: أفلا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له»: هذا حديث حسن صحيح
‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌

الإيمانُ بالقَدَرِ مِن أُصولِ الإيمانِ التي لا يَتِمُّ إيمانُ العَبدِ إلَّا بها، وقد قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا سَألَه جِبريلُ عليه السَّلامُ عَنِ الإيمانِ، قال: أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه. وقد جاءَ بَيانُ مَفهومِ الإيمانِ بالقَدَرِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ أتَمَّ البَيانِ، وأنَّه يَتَضَمَّنُ عِلمَ اللهِ وقُدرتَه ومَشيئَتَه وخَلْقَه، وأنَّ اللَّهَ تعالى قد قدَّرَ مَقاديرَ الخَلائِقِ وأعمالَهم وإلى ما هم صائِرونَ إلَيه قَبلَ خَلقِ السَّمَواتِ والأرض، ولَكِنْ على العِبادِ العَمَلُ وامتِثالُ الأوامِرِ واجتِنابُ النَّواهي، وعَدَمُ تَركِ العَمَلِ والاتِّكالِ على القَدَرِ، وقد بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك للصَّحابةِ، يَقولُ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه: بَينَما نَحنُ، أي: الصَّحابةُ، مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وجاءَ في رِوايةٍ أنَّ ذلك كان وهم جُلوسٌ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جِنازةِ أحَدِ الصَّحابةِ في المَقبَرةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنكُتُ في الأرضِ، أي: يَضرِبُ الأرضَ بطَرَفِ عودٍ كان مَعَه؛ ليُؤَثِّرَ في الأرضِ، وهو فِعلُ المُفكِّرِ في أمرٍ عَظيمٍ يُحَدِّثُ نَفسَه به، إذ رَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ، أي: رَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأسَه إلى السَّماءِ، ثُمَّ قال لَهم: ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا قد عُلمَ -قال وكيعٌ: إلَّا قد كُتِبَ، وهو شَكٌّ مِنَ الرَّاوي: هَل قال النَّبيُّ: عُلِم أو كُتِبَ- مَقعَدُه مِنَ النَّارِ ومَقعَدُه مِنَ الجَنَّةِ.

والمَعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى قد عَلمَ وكَتَب أهلَ النَّارِ وأهلَ الجَنَّةِ، لعِلمِه سُبحانَه بما سَيَعمَلُ عِبادُه وما يَستَحِقُّونَ عليه مِنَ الجَزاءِ.

فقال الصَّحابةُ: أفلا نَتَّكِلُ يا رَسولَ اللهِ؟! أي: إذا كان الأمرُ قد فُرِغَ مِنه فلماذا لا نَترُكُ العَمَلَ ونَعتَمِدُ على ما قد قُدِّرَ لَنا؟! فإنَّه إذا سَبَقَ القَضاءُ لكُلِّ واحِدٍ بالجَنَّةِ أو بالنَّارِ فأيُّ فائِدةٍ في العَمَلِ الصَّالحِ؟! فإنَّ العَمَلَ الصَّالحَ لا يُغَيِّرُ قَضاءَ اللهِ تعالى، وكَذا العَمَلُ القَبيحُ، ولماذا التَّعَبُ؟! فقال لَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، أي: لا تَتَّكِلوا، بَل اعمَلوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أي: كُلُّ واحِدٍ يَجري عليه مِنَ الأفعالِ ما قُدِّرَ له مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ، كما أنَّ الأرزاقَ تَأتي عليهم بقَدرِ ما قُدِّرَ لَهم، وحاصِلُ السُّؤالِ: ألَا نَترُكُ مَشَقَّةَ العَمَلِ؛ فإنَّا سَنَصيرُ إلى ما قُدِّرَ علينا؟! وحاصِلُ الجَوابِ: لا مَشَقَّةَ؛ لأنَّ كُلَّ أحَدٍ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، وهو يَسيرٌ على مَن يَسَّرَه اللهُ، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى} [الليل: 5- 10]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وفي الحَديثِ إثباتُ القَدَرِ.
وفيه بَيانُ عِلمِ اللهِ وكِتابَتِه لأهلِ النَّارِ وأهلِ الجَنَّةِ.
وفيه أنَّ كُلَّ واحِدٍ يَعمَلُ لِما يُسِّر له.
وفيه الأمرُ بالعَمَلِ وعَدَمِ الاتِّكالِ على القَدَرِ السَّابِقِ .