باب ما جاء في الهجرة
سنن الترمذى
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: حدثنا زياد بن عبد الله قال: حدثنا منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وفي الباب عن أبي سعيد، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن حبشي: هذا حديث حسن صحيح وقد رواه سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر نحو هذا
كانتِ الهِجرةُ في بِدايةِ الإسلامِ إلى المَدينةِ فَرْضًا على كُلِّ مُسلِمٍ؛ لِيُقاتِلَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حتَّى تَكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العُلْيا، فلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ في السَّنةِ الثامِنةِ مِنَ الهِجرةِ، وكَسَرَ شَوكةَ صَناديدِ قُرَيشٍ، ودَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفواجًا، وأظهَرَ اللهُ المُسلِمينَ على عَدُوِّهم؛ لم تَلزَمِ النَّاسَ الهِجرةُ بعْدَ ذلك، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ فَتحِ مَكَّةَ: «لا هِجرةَ، ولكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنفِرتُمْ فانفِرُوا»، فلم يَبْقَ سِوى نِيَّةِ الجِهادِ المَفروضِ على المُسلِمينَ عِندَ نُزولِ العَدُوِّ، أو إرادةِ الفَتحِ؛ فالهِجرةُ وَجَبتْ لِمَعنَيَيْنِ؛ أحَدُهما: نُصرةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه كان في قِلَّةٍ، فوَجَبَ على النَّاسِ النَّفيرُ إليه لِنَصرِه على أعدائِه، والآخَرُ: لِاقتِباسِ العِلمِ وفَهْمِ الدِّينِ، وكان أعظَمُ المَخُوفِ عليهم مَكَّةَ، فلَمَّا فُتِحتْ مَكَّةُ أمِنَ المُسلِمونَ، وانتَشَرَ الدِّينُ، فقيلَ لِلنَّاسِ: قدِ انقَطَعتِ الهِجرةُ وبَقيَتْ نِيَّةُ المُجاهَدةِ؛ ولذلك قال لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وإذا استُنفِرْتم فانفِروا»، أي: كونوا مُستَعِدِّينَ، فإذا دُعِيتُم إلى جِهادِ عَدُوٍّ فأجِيبوا.
وتَضمَّنَ الحَديثُ بِشارةً مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ مَكَّةَ ستَستَمِرُّ دارَ إسلامٍ أبَدًا؛ لِأنَّه نَفى أنْ يَكونَ هناك هِجرةٌ بعْدَ فَتحِها، وهذا يَدُلُّ على أنَّها لنْ تَعودَ دارَ كُفرٍ مَرَّةً أُخرى؛ إذِ الهِجرةُ لا تَكونُ إلَّا مِن دارِ الكُفرِ.