‌‌باب ما جاء في الوصية بالثلث

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الوصية بالثلث

حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسول الله، إن لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كله؟ قال: «لا»، قلت: فثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: فالشطر؟ قال: «لا»، قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك»، قال: قلت: يا رسول الله، أخلف عن هجرتي؟ قال: «إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم» لكن البائس سعد ابن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة: وفي الباب عن ابن عباس وهذا حديث حسن صحيح وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن سعد بن أبي وقاص والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث، وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والثلث كثير»
‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌

لقدْ أوضَحَ الإسلامُ أحكامَ الوَصيَّةِ وبيَّن كَيفيَّتَها، وما يَجوزُ الوصيَّةُ به وما لا يَجوزُ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جاءه يَعودُه مِن وَجَعٍ قارَبَ منه على الموتِ، وكان ذلك بمكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ في العام العاشر من الهجرة، كما في رواية الصحيحين، وكان سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه يَكرَهُ أنْ يَموتَ بالأرضِ الَّتي هاجَر منها، كما صرَّحَت رِوايةُ مُسلمٍ: «قدْ خَشِيتُ أنْ أموتَ بالأرضِ التي هاجرْتُ منها»، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يَرْحَمُ اللهُ ابنَ عَفْراءَ»، يَقصِد سَعْدَ ابنَ خَوْلةَ رَضيَ اللهُ عنه، وكان قدْ مات بمكَّةَ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَكرَهُ لمَن هاجَرَ مِن مكَّةَ أنْ يَرجِعَ إليها أو يُقيمَ بها أكثَرَ مِن انقضاءِ نُسكِه.
فسَأَلَ سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ يُوصي بمالِه كلِّه؟ أي: يُخرِجُ هذا المالَ في أعمالِ البِرِّ بعْدَ مَوتِه، فنَهاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فالشَّطْرُ؟ وهو النِّصفُ، فنَهاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: الثُّلُثُ؟ فأجابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَكفِيكَ الوصيَّةُ بالثُّلثِ، وهو كَثيرٌ، تَرغيبًا مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لسَعدٍ لِيُقلِّلَ عن الثُّلثِ.

ثمَّ بيَّنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الأفضَلَ له أنْ يَترُكَ وَرَثتَه أغنياءَ، فيكونُ هذا المالُ سَببًا في إغناءِ الوَرَثةِ؛ فهو خَيرٌ مِن أنْ يَترُكَهم فُقراءَ «يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيدِيهم» فيَسْأَلونَهم بأكُفِّهم أنْ يَبْسُطوها للسُّؤالِ، أو يَسْأَلون ما يَكُفُّ عنهم الجُوعَ، وأخْبَرَه أنَّه إنْ عاش فما أنْفَقَه مِن نَفَقةٍ ابتغاءَ وَجْهِ اللهِ، فإنَّها صَدَقةٌ، فالأجرُ حَاصلٌ له حيًّا وميِّتًا، حتَّى اللُّقمةُ تَرفَعُها إلى فَمِ امرأتِك، وهذا مُبالَغةٌ في بَيانِ أوجُهِ الإنفاقِ التي يُثابُ ويُؤجَرُ عليها الإنسانُ؛ لأنَّ زَوجةَ الإنسانِ هي مِن أخصِّ حُظوظِه الدُّنيويَّةِ وشَهواتِه ومَلاذِّه المباحةِ.
ثمَّ دعَا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «عَسى اللهُ أنْ يَرفَعَكَ»، أي: يُطيلَ عُمرَك، فَيَنتفِعَ بكَ ناسٌ مِن المسلمين بالغَنائمِ ممَّا سيَفتَحُ اللهُ على يَدَيك مِن بِلادِ الشِّركِ، «ويُضَرَّ بكَ آخَرون» مِن المشركينَ الذين يَهلِكون على يَدَيك.
ثمَّ بيَّن الرَّاوي أنَّه في وقْتِ مَرَضِ سَعدٍ هذا لم يكُنْ له إلَّا ابنةٌ واحدةٌ، ومعنى ذلك: أنَّه لا يَرِثُني مِن الولَدِ، أو مِن خَواصِّ الوَرَثةِ، أو مِن النِّساءِ؛ وإلَّا فقدْ كان لسَعدٍ عَصَباتٌ؛ لأنَّه مِن بَني زُهْرةَ، وكانوا كَثيرًا، وقيل: مَعناهُ: لا يَرِثُني مِن أصحابِ الفروضِ، أو خصَّها بالذِّكرِ على تَقديرِ: لا يَرِثُني ممَّن أخاف عليه الضَّياعَ والعجْزَ إلَّا هي، أو ظنَّ أنَّها تَرِثُ جَميعَ المالِ، أو استَكثَرَ لها نِصفَ التَّركةِ.
قيل: إنَّ قولَه في الحديثِ: «ابْنَ عَفْراءَ» وهَمٌ مِن أحَدِ الرُّواةِ، والمحفوظُ: ابنُ خَوْلةَ، وقيل: يَحتمِلُ أنْ يكونَ «ابنُ عَفْراءَ» لَقَبًا له أو اسمًا آخَرَ لأُمِّه.
وفي الحديثِ: بَيانُ أنَّ الوَرَثةَ أحقُّ النَّاسِ بتَرِكةِ الميِّتِ.
وفيه: أنَّ النَّفقةَ على الأهْلِ مِن الأعْمالِ الصَّالحةِ.
وفيه: أنَّ المُباحَ إذا قُصِدَ بِه وجْهُ اللهِ تعالَى صارَ طاعةً ويُثابُ عليه.
وفيه: عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ وقَعَ كما أخْبَرَ؛ فقدْ عاشَ سَعدٌ بعْدَ حَجَّةِ الوداعِ سِنينَ، وانتَفَعَ به ناسٌ، وضُرَّ به آخَرون.
وفيه: عِيادةُ المريضِ.
وفيه: بيانُ ما كان عندَ الصَّحابةِ مِن حِرصٍ على فِعلِ الخَيرِ.
وفيه: الوصيَّةُ والمبادَرةُ إليها معَ عَلاماتِ الموتِ؛ كمرَضٍ ونحوِه.
وفيه: أنَّ الوصيَّةَ تكونُ في ثُلثِ المالِ أو أقلَّ ولا تَزيدُ عن ذلك.