باب ما جاء في بدء شأن المنبر 4
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بشر بكر بن خلف، حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة،
عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى أصل شجرة - أو قال: إلى جذع - ثم اتخذ منبرا قال: فحن الجذع. قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد، حتى أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسحه فسكن، فقال بعضهم: لو لم يأته لحن إلى يوم القيامة (2).
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما عن قِصَّةِ صُنعِ مِنبَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَقومُ في النَّاسِ واقفًا خُطبَتَه يومَ الجُمُعةِ، مُستنِدًا إلى شَجرةٍ أو نَخْلةٍ، والمُرادُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَنِدُ إلى جِذعٍ منها، ثُمَّ إنَّ امرأةً -أو رَجلًا- مِنَ الأنْصارِ عرَضَتْ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تَجعَلَ له شَيئًا يَقعُدُ عليه عندَ الخُطبةِ وغَيرِها، وكان لها غُلامٌ نَجَّارٌ، يُجيدُ تَرْكيبَ الأخْشابِ وتَشْكيلَها، فقال لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنْ شِئتُم»، وهذه مُوافَقةٌ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أنْ يَصنَعَ غُلامُها النَّجَّارُ ما ذكَرَتْه، فعمِلَتْ له المِنبَرَ، وأحضَرَتْه ووُضِعَ في المَسجِدِ، فلمَّا كان يومُ الجُمُعةِ تَوجَّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نحْوَ المِنبَرِ، وقَعَد عليه، «فصاحَتِ النَّخْلةُ صِياحَ الصَّبيِّ»، أي: صدَرَ من جِذعِ النَّخْلةِ صَوتٌ مُرتفِعٌ، وهو صَوتُ الحَنينِ والشَّوقِ، يُشبِهُ صَوتَ الطِّفلِ الصَّغيرِ عندَما يَبْكي لفِراقِ أُمِّه، فنَزَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن فَوقِ المِنبَرِ حتَّى أخَذَها، فضَمَّها إلى جَسدِه؛ لتَشعُرَ به، فجعَلَتْ «تَئنُّ أنينَ الصَّبيِّ الَّذي يُسكَّنُ»، أي: فبَدَأتْ تَهدَأُ شَيئًا فشَيئًا، كما يُسكَّتُ الطِّفلُ الَّذي يَصدُرُ منه الأَنينُ، وهو الصَّوتُ المَخْنوقُ المَمْلوءُ بالحُزنِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُوضِّحًا سَببَ البُكاءِ: «كانت تَبْكي على ما كانت تَسمَعُ منَ الذِّكرِ عندَها»، أي: مِن كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذِكرِ اللهِ تعالَى، والوَعظِ، والقُرآنِ، وغيرِ ذلك.
وفي الحَديثِ: مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ النُّبوَّةِ، حيث تَشعُرُ الجَماداتُ بوُجودِه، وفِراقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مَشروعيَّةُ اتِّخاذِ المِنبَرِ في المَساجدِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الوُقوفِ في الخُطبةِ على أيِّ شَيءٍ مُرتفِعٍ.