باب ما جاء في ثمن الكلب1
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث» وفي الباب عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر: حديث رافع حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، كرهوا ثمن الكلب، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقد رخص بعض أهل العلم في ثمن كلب الصيد
أحلَّ اللهُ لعِبادِهِ الطَّيِّباتِ، وحرَّمَ عليهِمُ الخَبائِثَ مِن كُلِّ شَيءٍ، وفي كُلِّ شَيءٍ؛ مِنَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ، والمَكْسَبِ والتِّجارةِ، وغيرِ ذلك، كما حَثَّ الشَّرْعُ المسلِمَ على أنْ يكونَ كَريمَ النَّفْسِ مُترَفِّعًا عَنِ الدَّنايا.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ثَمَنُ الكلبِ خَبيثٌ»، أي: حَرامٌ، والمُرادُ ثَمَنُ بَيعِهِ أو شِرائِهِ، وما تمَّ كَسْبُهُ مِن ذلك فهو مالٌ غيرُ طَيِّبٍ؛ لأنَّ الكلبَ مَنْهيٌّ عَنِ اقْتنائِهِ وتَربيتِهِ، إلَّا كلْبَ الماشيةِ والحَرْثِ، قيلَ: إنَّ هذا حُكْمٌ عامٌّ، سَواءٌ كان مُعلَّمًا على الصَّيدِ أو غيرَ مُعلَّمٍ، أو كان ممَّا يَجوزُ اقْتِناؤُه، أو ممَّا لا يَجوزُ اقْتِناؤُه. وقيلَ: يُسْتَثنى مِن ذلك كَلبُ الحِراسةِ والصَّيدِ؛ لأنَّه ذو مَنفَعةٍ، كما في سُنَنِ التِّرمذيِّ مِن حَديثِ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «إلَّا كلْبَ الصَّيدِ».
وفي رِوايةِ الدَّارقُطْنيِّ: «إلَّا الكلْبَ الضَّاريَ»، وهو المُعتادُ للصَّيدِ، فكأنَّه عليه السَّلامُ نَهى عن ثمَنِ الكلْبِ إلَّا الكلْبَ الَّذي أُذِنَ في اتِّخاذِه للانْتفاعِ به، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ النَّهيُ عن ثمَنِ الكلْبِ كان في بَدءِ الإسْلامِ، ثمَّ نُسِخَ ذلك، وأُبِيحَ الاصْطيادُ به، وكان كسائرِ الجَوارحِ في جَوازِ بَيْعِه.
وكذلك ما تَأخُذُهُ الزَّانيةُ مِن مالٍ مُقابِلَ زِناها ومُقابلَ تَسليمِ نفْسِها للرَّجُلِ الأجْنبيِّ، فهو مُحرَّمٌ؛ لأنَّ الزِّنا حَرامٌ، وما أُخِذَ عليه مِن مالٍ فهو حَرامٌ، وسمَّاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَهرًا؛ لكَونِه على صُورتِه؛ فهو مقابلُ تَمكينِ المرأةِ من نَفْسِها، وقدْ كانوا في الجاهليَّةِ يُكرِهونَ إماءَهم على الزِّنا والاكْتِسابِ به، فأنْكَرَ الإسْلامُ ذلك في قَولِ اللهِ تعالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33].
«وكَسْبُ الحَجَّامِ خَبيثٌ»، والحَجَّامُ هو مَنْ يقومُ بالحِجامةِ، وهي فَصْدُ العُروقِ وإخْراجُ الدَّمِ الفاسِدِ مِنَ الجِسمِ، وكَوْنُ كَسْبِهِ خَبيثًا لا يَعني أنَّه مُحرَّمٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدِ احْتَجَمَ وأعْطى الحجَّامَ أُجْرةً كما في الصَّحيحَينِ من حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، ولو كان ذلك حَرامًا لَمَا أعْطاهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحُمِلتْ أحاديثُ النَّهيِ عن كَسْبِ الحجَّامِ والتَّصريحِ بأنَّه خَبيثٌ على التَّنْزِيهِ والتَّرَفُّعِ عن دَنيءِ الأكْسابِ، والحَثِّ على مَكارمِ الأخْلاقِ، ومَعالي الأُمورِ.
أو يَحتمِلُ أنْ يكونَ النَّهيُ كان في بَدْءِ الإسْلامِ، ثمَّ نُسِخَ ذلك؛ فلَمَّا أعْطى الحَجَّامَ أجْرَه، كان ناسخًا لِمَا تَقدَّمَه.