‌‌باب ما جاء في كراهية المدحة والمداحين1

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في كراهية المدحة والمداحين1

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن أبي معمر، قال: قام رجل فأثنى على أمير من الأمراء، فجعل المقداد، يحثو في وجهه التراب وقال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب» وفي الباب عن أبي هريرة: «هذا حديث حسن صحيح» وقد روى زائدة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن المقداد، وحديث مجاهد عن أبي معمر أصح، وأبو معمر اسمه: عبد الله بن سخبرة، والمقداد بن الأسود هو: المقداد بن عمرو الكندي ويكنى أبا معبد، وإنما نسب إلى الأسود بن عبد يغوث لأنه كان قد تبناه وهو صغير

نُفوسُ بعضِ النَّاسِ ميَّالةٌ إلى الزَّهوِ والعُجبِ إذا وُصِفت بالصِّفاتِ المحمودةِ، وخاصَّةً الأُمَراءَ والحُكَّامَ؛ فإنَّ المَدحَ يَستهوِيهم ويُعطون عليه العَطايا والأموالَ، ورُبَّما أغْراهم المدحُ بفِعلِ أُمورٍ كَثيرةٍ مِنَ المَعايِبِ والتَّكبُّرِ والغرورِ؛ تصوُّرًا منهم أنَّهم يَستحِقُّون أكثرَ مِمَّا هُم فيه وأفضَلَ، وهذا فيه ضَررٌ بمَصالحِ العِبادِ وإفسادٌ لنُفوسِ الحُكَّامِ.
وفي هَذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ هَمَّامُ بنُ الحارثُ النَّخَعيُّ الكوفيُّ: أنَّ رَجلًا كانَ يَمدَحُ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه، ولعلَّ ذلك كان وقْتَ خِلافتِه، «فجَثا»، أي: نزَلَ المِقدادُ بنُ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنه على رُكبتَيْه فوْرَ سَماعِه مَدْحَ الرَّجلِ، وكان المقدادُ رَضيَ اللهُ عنه عَظيمَ الجِسمِ، وكأنَّ الرَّاويَ نَبَّه على هذا لبَيانِ أنَّه مع كَونِه جَسِيمًا تَكبَّدَ مَشقَّةَ الجُثوِّ على رُكبتَيْه اهتمامًا بشَأنِ تَنفيذِ أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجَعَلَ المِقدادُ يَغرِفُ بيَديْه الحَصى الصَّغيرةَ فيَجعَلُها في وَجهِ المادحِ، فسَأله عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه عن فِعلِه هذا، فاستَدَلَّ المِقدادُ بِقولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إِذا رَأيتُم المدَّاحينَ، فَاحثُوا في وُجوهِهِم التُّرابَ»، وَالمدَّاحونَ هُمُ الَّذين اتَّخَذوا مَدْحَ النَّاسِ عادةً، أو مَن مَدَحَ بباطِلٍ أَو ما يُؤدِّي إلى باطلٍ.
فحمَلَ المِقدادُ الحديثَ على ظاهِرِه وَوافقَه طائِفَةٌ، وكانوا يَحثُونَ التُّرابَ في وَجهِه حَقيقةً، وَقال آخَرونَ: مَعناه: خيِّبوهُم فَلا تُعطوهُم شيئًا لِمَدْحِهم؛ لأنَّ في مَدحِهم تَزكيةً لنَفْسٍ مُسْلمةٍ، واللهُ تَعالَى يقولُ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وهذا المدْحُ المَنهيُّ عنه هو المدْحُ المذمومُ الَّذي لا يكونُ في صاحبِه، أو يَحصُلُ به تَضرُّرُ الممدوحِ، أمَّا المدْحُ الَّذي يَحصُلُ به الفائدةُ والمصلحةُ فلا بأْسَ به، ومنه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن كان مِنكم مادِحًا أخاهُ لا مَحالةَ، فلْيَقُلْ: أحْسِبُ فُلانًا، واللهُ حَسِيبُه، ولا أُزَكِّي على اللهِ أحدًا، أحْسِبُه كذا وكذا، إنْ كان يَعلَمُ ذلكَ منه» مُتَّفقٌ عليه.
وفي الحديثِ: بَيانُ اهتمامِ الصَّحابةِ بتَطبيقِ ما فَهِموه مِن السُّنَّةِ النَّبويَّةِ.
وفيه: الزَّجرُ عن المدحِ المؤدِّي إلى إفسادِ النُّفوسِ.