باب ما جاء في كراهية النوح2
سنن الترمذى
حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو داود قال: أخبرنا شعبة، والمسعودي، عن علقمة بن مرثد، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والعدوى أجرب بعير فأجرب مائة بعير من أجرب البعير الأول، والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا ": «هذا حديث حسن»
علَّمَنا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الاعتقادَ الصَّحيحِ في اللهِ جَلَّ وعَلَا، وأنَّه سُبحانَه المُدبِّرُ للكونِ، وبيَدِه مقاليدُه، وفي هذا الحديثِ يُعدِّدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كثيرًا من الأُمورِ الَّتي كانتْ مِن أمرِ الجاهليَّة، ويَنْبغي للمُسلمِ الابتعادُ عنها؛ حتَّى تصفُوَ عقيدتُه؛ وفيه يقولُ: "أربعٌ في أُمَّتي"، أي: أربعُ خِصالٍ، "من أمْرِ الجاهليَّةِ، لنْ يدعَهنَّ النَّاسُ"، أي: أنَّها باقيةٌ في الأُمَّةِ رغْمَ أنَّها ممَّا كان عليه النَّاسُ في الجاهليَّةِ التي كانتْ قَبلَ مَجيءِ الإسلامِ، ممَّا يَستوجِبُ عليهم ترْكَهم لتِلك العاداتِ.
وأُولى هذه الخِصالِ: "النِّياحةُ" وهي البُكاءُ على الميِّتِ بصَوتٍ وندْبٍ وتَعديدٍ من أهْلِه على فقْدِهم له، أمَّا بُكاءُ الحُزنِ والرَّحمةِ؛ فلا شيءَ فيه؛ فقد روَى البخاريُّ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بَكَى ابنَه إبراهيمَ على إحْدَى بَناتِه، ولكنَّه بُكاءُ رحمةٍ دون نَدْبٍ أو اعتِراضٍ، وقال: "هذه رَحمَةٌ جَعلَها اللَّهُ في قُلوبِ عِبادِه، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبادِه الرُّحَماءَ".
والثَّانيةُ: "والطَّعنُ في الأحسابِ" جمْعُ حسَبٍ، وهو ما يعُدُّه الرَّجلُ من الخِصالِ الَّتي تكونُ فيه؛ كالشَّجاعةِ والفَصاحةِ وغيرِ ذلك، وقيل: الحسَبُ ما يعُدُّه الإنسانُ من مفاخرِ آبائِه، والطَّعنُ فيها يكونُ بإنْكارِهَا ونَفْيِها عَنِ المتَّصفِ حَقًّا بِها، أو بِرَمْيهِ بالمَذمَّاتِ، وما يَسلُبُ منه مَكارِمَ الصِّفاتِ.
والثَّالثةُ: "والعَدْوى" وهي انتقالُ المرضِ من المُصابِ به إلى آخَرَ سليمٍ، فيُصبِحُ مُصابًا بعدَ انتقالِ المرضِ إليه، ثمَّ فسَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمثالٍ لِما يَقْصِدُ من العَدْوى المَنهيِّ عنها، فقال: "أجرَبَ بَعيرٌ"، أي: إنْ صار أيُّ جمَلٍ فيه جرَبٌ، "فأجرَبَ"، أي: بعدَ البعيرِ الأوَّلِ، "مِئةَ بَعيرٍ، مَن أجرَبَ البعيرَ الأوَّلَ؟!" أي: إذا كان اعتقادُهم أنَّ المائةَ بَعيرٍ قد جَرِبوا بسبَبِ جرَبِ البعيرِ الأوَّلِ، فكيفَ هو اعتقادُهم في جَرَبِ البعيرِ الأوَّلِ؟! أي: إنَّ الأوَّلَ إذا كان مُضافًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ, فالثاني كذلك، والمُرادُ: النَّهيُ عنِ الاعتِقادِ أنَّ بعضَ الأمراضِ تَنتقِلُ بالعَدْوى؛ لأنَّ الأمْرَ بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه، فالنَّهيُ فيها إنَّما هو على الوجْهِ الَّذي يَعتقِدُه أهْلُ الجاهليَّةِ من إضافةِ الفعْلِ إلى غَيرِ اللهِ تعالى، وإنَّ هذه الأُمورَ تُعْدِي بطْبِعها، وإلَّا فقد يجعَلُ اللهُ بمَشيئتِه مُخالطةَ مَن به شَيءٌ من الأمراضِ سببًا لحُدوثِ المرضِ للصَّحيحِ؛ فلا ينافي ما ورَدَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من أحاديثَ تفيد الابتعاد عن أسباب ذلك، كقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ"، مُتَّفقٌ عليه، وقوله في الطَّاعونِ: "إذا سمِعْتُم به بأرضٍ، فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتم بها، فلا تخْرُجوا فِرارًا منه"، مُتَّفقٌ عليه.
والرَّابعةُ: "والأنواءُ"، أي: الاعتِقادُ في الأنواءِ، وأنَّها تُسبِّبُ المطَرَ، فيقولون: "مُطِرْنَا بنَوءِ كذا وكذا"، وبيانُ ذلك: أنَّ هناك ثَمانيةً وعِشرين نَجْمًا، معروفةَ المَطالِعِ في أزمنةِ السَّنةِ كلِّها، وهي المعروفةُ بمنازلِ القَمرِ الثَّمانيةِ والعِشرينَ، ويَسقُطُ في كلِّ ثلاثَ عَشْرةَ ليلةً منها نجْمٌ في المغربِ مع طُلوعِ الفجْرِ، ويطلُعُ آخَرُ يُقابِلُه في المشرقِ من ساعتِه؛ فكان أهْلُ الجاهليَّةِ إذا حدَثَ عندَ ذلك مطَرٌ، يَنسُبونَه إلى السَّاقطِ الغاربِ أو إلى الطَّالعِ، فأعلَمَهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ هو الَّذي يُنزِلُ المطرَ.
وفي الحديثِ: التَّحذيرُ من عاداتِ الجاهليَّةِ، والتَّنبيهُ على الابتعادِ عنها.