باب من اكتوى2
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة (ح)
وحدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، قال:
سمعت عمي يحيى -وما أدركت رجلا منا به شبيها- يحدث الناس: أن سعد بن زرارة -وهو جد محمد من قبل أمه- أنه أخذه وجع في حلقه، يقال له: الذبحة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأبلغن -أو لأبلين- في أبي أمامة عذرا" فكواه بيده فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ميتة سوء لليهود! يقولون: أفلا دفع عن صاحبه! وما أملك له ولا لنفسي شيئا" (1)
أمَر الشَّرعُ الحكيمُ باتِّخاذِ أسبابِ التَّداوي والعِلاجِ مِن الأمراضِ، مع اعتِقادِ أنَّ الشِّفاءَ والنَّفعَ والضُّرَّ بيَدِ اللهِ سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ يَحيى بنُ أسعَدَ بنِ زُرارةَ رَضي اللهُ عنهما: "أنَّ أسعَدَ بنَ زُرارةَ - وهو جدُّ محمَّدٍ مِن قِبَلِ أُمِّه"، أي: محمِّدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ سعدِ بنِ زُرارةَ الرَّاوي عن يَحيى بن أسعَدَ، "أنَّه أخَذه"، أي: أصاب أسعَدَ، "وجعٌ في حَلْقِه- يُقالُ له: الذُّبْحةُ-"، والذُّبْحَةُ: وجَعٌ يَعرِضُ في الحلْقِ مِن الدَّمِ، وقيل: هي قُرْحةٌ تَظهَرُ فيه فيَنْسَدُّ معها وينقَطِعُ النَّفَسُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لَأُبْلِيَنَّ أو لأُبْلِغَنَّ في أبي أُمامةَ"، وهي كُنيةُ أسعَدَ رَضي اللهُ عنه، "عُذرًا"، أي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم سيَفْعَلُ في عِلاجِه أقْصى دَرجاتِ العِلاجِ، ويأخُذُ فيه بأسبابِ التَّداوي، أو أختَبِرُ حالَه في العلاجِ حتَّى أبلُغَ عُذرًا مِن جانبي؛ بحيث لا يَبقى لأحدٍ في ذلك موقِعُ كلامٍ ومَقالٍ إنْ عالَجتُموه حقَّ علاجِه، قال: "فكَواه بيَدِه فمات"، أي: فعالَجَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالكيِّ فمات أسعَدُ رَضي اللهُ عنه، "فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "مِيتةُ سوءٍ لليَهودِ"، والمعنى: أنَّه مات مِيتةً تَسوؤُنا مِن قِبلِ اليهودِ؛ "يقولون: ألَا دفَع عن صاحبِه؟"، أي: كيف للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ألَّا يَدفَعَ عن أسعَدَ هذا الوجَعَ والموتَ، "وما أملِكُ له ولا لنَفْسِي مِن اللهِ شيئًا"؛ فبيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّ قولَهم هذا مِن السَّفاهةِ والجَهالَةِ؛ لأنِّي لا أملِكُ له ولا لنَفْسي ضَرًّا ولا نفعًا.
وقد ورَد عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم النَّهيُ عن الكيِّ، وفي هذا الحديثِ أنَّه كوَى أسعدَ بنَ زُرارةَ بيدِه، ويُجمَعُ بين هذه الأحاديثِ: بأنَّ الكَيَّ مِن العلاجِ والتَّدواي المأذونِ فيه، والنَّهيُ عنه يَحتمِلُ عدَّةَ احتمالاتٍ؛ ومنها: أنَّ النَّهيَ كان مِن أجلِ أنَّهم كانوا يُعظِّمون أمْرَ الكيِّ كأنَّه هو الَّذي يُبرِئُ ويَشْفي، وهذا يتَعارَضُ مع أنَّ اللهَ هو الشَّافي وأنَّ كلَّ دواءٍ ما هو إلَّا سبَبٌ للشِّفاءِ مِن عندِه سبحانه، فنهاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن هذا الوجْهِ وأمرَهم بالكيِّ على جهَةِ طلَبِ الشِّفاءِ والأخذِ بالأسبابِ. ويَحتمِلُ أن يَكونَ النَّهيُ واقعًا على الكيِّ قبلَ وقوعِ المرضِ للتَّحرُّزِ منه، وإنَّما أُبيح عند نُزولِ المرَضِ والبلاءِ للعلاجِ مِن جِهةِ الضَّرورةِ. ويَحتمِلُ أن يكونَ النَّهيُ عن الكيِّ في أعضاءٍ معيَّنةٍ مِن الجِسمِ إذا كان الضَّررُ أشدَّ مِن النَّفعِ.
وفي الحديثِ: مشروعيَّةُ التَّداوي بالكيِّ مع التَّحرُّزِ لأضرارِه .