حدثنا قتيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: «ليس أحد أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب»: «هذا حديث حسن صحيح»
كان الصَّحابةُ الكِرامُ يَحفَظون سُنَّةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بطُرقٍ مُتعدِّدةٍ؛ فمِنهم مَن كان يَحفَظُ بعَقْلِه وقَلْبِه، ومِنهم مَن كان يُدوِّن في الصُّحفِ والكُتُبِ، ومنهم المُكثِرُ والمُقِلُّ في كلِّ ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لا يُوجَدُ أحدٌ مِن الصَّحابةِ روَى مِن الأحاديثِ أكثَرَ منه، إلَّا ما كان مِن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّه كان يَمتازُ عن أبي هُرَيرةَ ويَنفرِدُ دونَه بالكِتابةِ، فيَكتُبُ ما يَسمَعُه. وفي قَولِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّ عبدَ الله بنَ عمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما كان أكثَرَ منه حديثًا، مع أنَّ المَرويَّ مِن أحاديثِه أقلُّ؛ وذلك لعِدَّةِ أسبابٍ؛ أوَّلًا: أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما سكَنَ مِصرَ، وكان يَتردَّدُ بيْنها وبيْن الطائفِ للإقامةِ، ولم تكُنِ الرِّحلةُ إليهما ممَّن يَطلُبُ العِلمَ كالرِّحلةِ إلى المدينةِ الَّتي سكَنَها أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، وكان أبو هُريرةَ مُتصدِّيًا فيها للفَتْوى والتَّحديثِ إلى أنْ مات، ويَظهَرُ هذا مِن كَثرةِ مَن حمَلَ عن أبي هُريرةَ؛ فقدْ ذُكِر أنَّه رَوى عنه ثَمانِمئةِ نفْسٍ مِن التابعينَ، ولم يَقَعْ هذا لغيرِه، ثانيًا: أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما كان مُشتغِلًا بالعِبادةِ أكثَرَ مِن اشتغالِه بالتَّعليمِ فقَلَّت الرِّوايةُ عنه، وثالثًا: ما اختُصَّ به أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه مِن دَعوةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له بألَّا يَنْسى ما يُحدِّثُه به، رابعًا: أنَّ عبدَ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه كان قد ظَفِرَ في الشامِ بحِمْلِ جَمَلٍ مِن كُتبِ أهلِ الكتابِ، فكان يَنظُرُ فيها ويُحدِّثُ منها، فتَجنَّبَ الأخْذَ عنه كَثيرٌ مِن أئمَّةِ التابعينَ.وفي قَولِ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه معنًى صَريحٌ في أنَّهم كانوا يَكتُبون عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحديثَ، وإنْ كان قد سَبَقَ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النَّهيُ عن كِتابةِ السُّننِ، كما عندَ مُسلمٍ مِن حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «لا تَكتُبوا عنِّي، ومَن كَتَبَ عنِّي غيرَ القرآنِ فلْيَمْحُه»؛ وذلك مَخافةَ اختلاطِ القرآنِ الكريمِ بغيرِه، وبعْدَ أنْ رَسَخَ حِفظُ الصَّحابةِ للقرآنِ ولم يُخْشَ خلْطُهم له بسِواهُ، أَذِنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لبَعضِ الصَّحابةِ بالكتابةِ.
وفي الحَديثِ: فَضيلةُ أبي هُرَيرةَ وعبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهم.
وفيه: ما يدُلُّ على أنَّ الكاتبَ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَجمَعُ بيْن حِفظِه بقَلْبِه وبيْن ضَبْطِه بخَطِّه، والرَّاوي إذا سَمِعَ مِن غيرِ كِتابةٍ فإنَّه يَعتمِدُ على ما يَحفَظُ بقَلْبِه خاصَّةً، فيكونُ ضَبْطُه مِن وجْهٍ واحدٍ، وأمَّا الكاتبُ فإنَّه يَضبِطُ مِن وَجهينِ.