باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 6
بطاقات دعوية
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ (77) يعرف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر! من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني: سبيل الخير، فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا رسول الله! هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"اللهم! اصرعه"، فصرعه الفرس، ثم قامت تحمحم (78)، فقال: يا نبي الله! مرني بم شئت. فقال:
"فقف مكانك؛ لا تتركن أحدا يلحق بنا"، قال: فكان أول النهار جاهدا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان آخر النهار مسلحة له. فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاؤوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وحفوا دونهما بالسلاح (79)، فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. فأشرفوا ينظرون، ويقولون: جاء نبي الله، فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب.
فإنه ليحدث أهله؛ إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم (80)، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله.
فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أي بيوت أهلنا أقرب؟ "، فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله! هذه داري وهذا بابي. قال:
"فانطلق، فهي (*) لنا مقيلا"، قال: قوما على بركة الله تعالى.
فلما جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -؛ جاء عبد الله بن سلام [يسأله عن أشياء؟ فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ (وفي رواية: ومن أى شيء ينزع إلى أخواله؟ 4/ 102). قال:
"أخبرني به جبريل آنفا"، قال ابن سلام: [نعم]؛ ذاك عدو اليهود من الملائكة، أفقرأ هذه الأية:
{من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك} 5/ 148]؛ قال:
"أما أول أشراط الساعة؛ فنار تحشرهم (وفي رواية: الناس) من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادة كبد الحوت، وأما [الشبه في] الولد؛ فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة؛ نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل؛ نزعت الولد (وفي رواية: فإن الرجل إذا غشي المرأة، فسبقها ماؤه؛ كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها؛ كان الشبه لها) 4/ 268]، فقال: أشهد [أن لا إله إلا الله، وأشهد، أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، [ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم؛ بهتوني عندك 4/ 103]، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم، فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت؛ قالوا في ما ليس في. فأرسل نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، [ودخل عبد الله البيت]، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يا معشر اليهود! ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو؛ إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا". قالوا: ما نعلمه. قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاث مرار. قال:
"فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ ". قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، [وأخيرنا وابن أخيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا]. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ ". قالوا: حاشى لله؛ ما كان ليسلم. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ ". قالوا: حاشى لله؛ ما كان ليسلم. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ ". قالوا: حاشى لله؛ ما كان ليسلم (وفي رواية: أعاذه الله من ذلك. في الموضعين). قال:
"يا ابن سلام! اخرج عليهم"، فخرج [عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه!]، فقال: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو؛ إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا له: كذبت (وفي الرواية الأخرى: قالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله!)، فأخرجهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
كانتِ الهِجْرةُ النَّبويَّةُ بِدايةَ عَهدٍ جَديدٍ للدَّولةِ الإسْلاميَّةِ، وكانتْ رِحْلةً مُبارَكةً، أيَّدَ اللهُ فيها رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمُعجِزاتِ، وحفِظَه مِن كَيدِ أعْدائِه، ولم يَلبَثْ طَويلًا حتَّى تحقَّقَ وَعْدُ اللهِ لنَبيِّه بالنَّصرِ، ودانَتِ البِلادُ والعِبادُ للهِ الواحِدِ القهَّارِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقبَلَ مِن مكَّةَ إلى المَدينةِ مُهاجِرًا وهو مُردِفٌ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه خَلْفَه على الرَّاحِلةِ الَّتي هو عليها، وقيلَ: إنَّما كان كلُّ واحدٍ منهما على دابَّةٍ وَحْدَه، وأحَدُهم يَمْشي بدابَّتِه خلْفَ الآخَرِ يَتبَعُه، ومِن هذا المَعنى قولُ اللهِ تعالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، أي: يَتبَعُ بَعضُهم بعضًا، وقيلَ: إنَّ هذا كان في أثْناءِ انْتِقالِهم مِن بَني عَمْرٍو، وهي قُباءٌ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلَ ما نزَل المَدينةَ نزَلَ في قُباءٍ، وهي مِنطَقةٌ تَبعُدُ عنِ المَدينةِ نَحْوَ مِيلَيْنِ، وأقامَ بها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عدَّةَ أيَّامٍ، ثمَّ انتقَلَ إلى المَدينةِ المُنوَّرةِ.
وكان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه شَيخًا، أي: شابَ شَعْرُ رَأسِه، وكان يَعرِفُه أهلُ المَدينةِ لمُرورِه عليهم في سَفَرِ التِّجارةِ، وقدْ كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أسَنَّ مِن أبي بَكرٍ، إلَّا أنَّ الشَّيبَ كان أسرَعَ إلى أبي بَكرٍ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانوا لا يُعرَفون نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لعَدمِ تَردُّدِه إليهم.
قال أنسٌ: «فيَلْقى الرَّجلُ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فيَقولُ له: يا أبا بَكرٍ، مَن هذا الرَّجلُ الَّذي بينَ يدَيْكَ؟ فيُعرِّض أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه في الإجابةِ ويُواري، فيقولُ له- ولا يقولُ إلَّا صِدقًا-: هذا الرَّجُلُ يَهْديني السَّبيلَ، أي: يَدلُّني على الطَّريقِ، وهذا ظاهرُ ما يَفهمُه المستمِعُ لتِلكَ الإجابةِ، إلَّا أنَّ أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه يَقصِدُ سَبيلَ الخَيرِ، والمرادُ به طريقُ الآخِرةِ والجَنَّةِ.
ثُمَّ يَذكُرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه ما حدَث بيْن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبي بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن جِهةٍ، وسُراقةَ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن جِهةٍ أُخرى، عندَما لحِقَهما في طَريقِ هِجرَتِهما قاصِدًا قَتْلَهما أو أسْرَهما؛ مِن أجْلِ الحُصولِ على المُكافأةِ الَّتي رَصدَتْها قُرَيشٌ لمَن يَقتُلُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، أو يَأْسِرُهما، فيَذكُرُ أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه الْتفَتَ فتَفاجَأَ بفارِسٍ قدْ لحِقَهم، وهو سُراقةُ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هذا فارسٌ قدْ لَحِق بنا، فالْتفَتَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: اللَّهمَّ اصرَعْه. فصرَعَه الفرَسُ، يَعني: أوقَعَه على الأرضِ، قال أنسٌ: «ثمَّ قامَتْ تُحَمحِمُ»، مِن الحَمْحَمةِ، وهي صَوتُ الفرَسِ، فقال سُراقةُ: يا نَبيَّ اللهِ، مُرْني بما شِئتَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له: فقِفْ مكانَكَ، لا تَترُكَنَّ أحدًا يَلحَقُ بنا، فكان سُراقةُ أوَّلَ النَّهارِ جاهدًا على نَبيِّ اللهِ -أي: مُبالِغًا في طَلبِه وأَذاهُ- وكان آخِرَ النَّهارِ مَسْلَحةً له، أي: يَدفَعُ عنه الأذَى بمَثابةِ السِّلاحِ.
فنزَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جانِبَ الحَرَّةِ، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سَوْداءَ، ويَعني بها قُباءً، وقدْ نزَل بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلًا، وبَنى بها المَسجِدَ، ثمَّ بَعَث صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الأنْصارِ، فجاؤوا إلى نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ تعالَى عنه، فسَلَّموا عليهما، وقالوا: ارْكَبا حالَ كَونِكما آمِنَينِ مُطاعَيْنِ، فرَكِب نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وحَفُّ الأنصارُ دونَهما بالسِّلاحِ، أي: أحْدَقوهما وأحاطوهما بالسِّلاحِ، فقيلَ في المَدينةِ: جاء نَبيُّ اللهِ -مرَّتَينِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاطَّلَعوا مِن فوقِ البُيوتِ، والأماكِنِ المُرتَفِعةِ، ونَحوِها يَنظُرونَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَقولونَ: جاء نَبيُّ اللهِ، جاء نَبيُّ اللهِ.
فأقْبَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسيرُ حتَّى نزَل بجِوارِ دارِ الصَّحابيِّ أبي أيُّوبَ الأنْصاريِّ رَضيَ اللهُ تعالَى عنه، فلمَّا كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحدِّثُ أهْلَه -لعلَّ المُرادَ بهم بعضُ مَن حَولَه مِن أقارِبِه- إذْ سَمِع به الصَّحابيُّ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه -ولم يكُنْ قد دخَل الإسْلامَ بعدُ- وهو في نَخلٍ لأهلِه «يَختَرِفُ»، يَعني: يَجْتَني لهم مِن الثِّمارِ، فاستَعجَلَ أنْ يضَعَ الثِّمارَ الَّتي جَناها لأهْلِه، فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والثَّمَرةُ الَّتي اجْتَناها في الوِعاءِ معَه، فسَمِع مِن نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَعني: سَمِع منه دَعْوتَه إلى الإسْلامِ، وذِكرَ مَحاسِنِه، وتَرْغيبَه للدُّخولِ فيه، ونحْوَ ذلك، وفي سُنَنِ التِّرْمِذيِّ عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ: «قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجِئتُ في النَّاسِ؛ لِأنْظُرَ إليه، فلمَّا استَبَنْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عرَفْتُ أنَّ وَجْهَه ليس بوَجهِ كذَّابٍ، وكان أوَّلَ شَيءِ تكَلَّمَ به أنْ قال: يا أيُّها النَّاسُ، أفْشوا السَّلامَ، وأطْعِموا الطَّعامَ، وصَلُّوا والنَّاسُ نيامٌ؛ تَدخُلوا الجنَّةَ بسَلامٍ»، ثمَّ رجَع عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ إلى أهْلِه.
ثمَّ سَأَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصْحابَه: «أيُّ بُيوتِ أهلِنا أقرَبُ؟» ويَعني بأهلِنا: قَرابَتَنا؛ لأنَّ منهم والِدةَ عبدِ المُطَّلِبِ جدِّه، وهي سَلْمى بنتُ عَوفٍ مِن بَني مالكِ بنِ النَّجَّارِ؛ ولهذا جاء في صَحيحِ البُخاريِّ مِن حَديثِ البَراءِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نزَل على أخْوالِه، أو أجْدادِه مِن بَني النَّجَّارِ، فقال أبو أيُّوبَ خالدُ بنُ زَيدٍ الأنْصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه: أنا يا نَبيَّ اللهِ، هذه داري، وهذا بابي، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فانطَلِقْ فهَيِّئْ لنا مَقِيلًا، أي: مَكانًا نَقِيلُ فيه في دارِكَ، والمَقِيلُ: النَّومُ نِصفَ النَّهارِ.
قال أبو أيُّوبَ رَضيَ اللهُ عنه: قُومَا على بَرَكةِ اللهِ تعالَى، فلمَّا جاء نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى مَنزِلِ أبي أيُّوبَ الأنْصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، جاء عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: أشهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللهِ، وأنَّكَ جِئتَ بحقٍّ. وفي حَديثٍ آخَرَ في صَحيحِ البُخاريِّ أنَّه سأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أشْياءَ، وأخبَرَه أنَّه لا يَعلَمُهنَّ إلَّا نَبيٌّ، وأجابَه عنها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسلَمَ.
ثمَّ أخبَرَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه قدْ علِمَتْ يَهودُ أنَّه سيِّدُهم وابنُ سيِّدِهم، وأعلَمُهم وابنُ أعلَمِهم، وطلَبَ منه أنْ يَدْعُوَهم، فيَسأَلَهم عنه قبْلَ أنْ يَعْلَموا أنَّه قدْ أسلَمَ؛ فإنَّهم إنْ عَلِموا أنَّه قدْ أسْلَمَ قالوا فيه ما لَيس فيه كَذِبًا وُزورًا، فأرادَ بذلك أنْ يَستَنطِقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اليَهودَ بمَكانةِ عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ أوَّلًا قبْلَ أنْ يُعلِمَهم بإسْلامِه؛ لِمَا في طِباعِهم مِن لؤْمٍ وكَذِبٍ وخِداعٍ، فأرسَلَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى اليَهودِ، فأقْبَلوا، فدَخَلوا عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ أنِ اخْتَبَأ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا مَعشَرَ اليَهودِ، وَيلَكم -وهي كَلمةٌ استَعمَلَتْها العرَبُ بمَعنى التَّعجُّبِ والتَّوجُّعِ، وتَعني: وقَع بكمُ الشَّرُّ- اتَّقوا اللهَ؛ فواللهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، إنَّكم لتَعْلَمونَ أنِّي رَسولُ اللهِ حقًّا، وأنِّي جِئتُكم بحقٍّ، فأسْلِموا، فقالوا مُنكِرينَ ذلك: ما نَعلَمُه، يَعني: أنَّهم لا يَعلَمونَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولُ اللهِ، وقد كذَّبوا حسَدًا وبَغيًا، قال تعالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، قالها لهم ثَلاثَ مِرارٍ، ثمَّ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فما مَكانةُ عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ فيكمْ؟ قالوا: هو سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وأعْلَمُنا وابنُ أعْلَمِنا، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهمْ: أفرَأَيْتم -أي: أخْبِروني- إنْ أسلَمَ عبدُ اللهِ؟ قالوا: حاشى للهِ -ومَعْناها: مَعاذَ اللهِ، وتَنْزيهًا له، مِن المُحاشاةِ: وهي التَّخْليةُ والتَّبعيدُ- ما كان لِيُسلِمَ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أفرَأَيْتم إنْ أسلَمَ؟ كرَّرَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثًا، وكرَّروا إجابَتَهم، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا ابنَ سَلَامٍ، اخرُجْ عليهم، فخرَج، فقال: يا مَعشَرَ اليَهودِ، اتَّقوا اللهَ؛ فواللهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، إنَّكم لتَعْلَمونَ أنَّه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه جاء بحقٍّ، فأنْكَروا عليه إسْلامَه، وقالوا له: كذَبْتَ، فأخرَجَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عندِه.
وفي الحَديثِ: أنَّ هِجْرتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم تكُنْ سَهلةً مَيْسورةً، وإنَّما كانتْ صَعْبةً قاسيةً مَحْفوفةً بالمَخاطِرِ.
وفيه: مُعجِزتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الظَّاهرةُ مع سُراقةَ بنِ جُعْشُمٍ.
وفيه: أنَّ في نُزولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدارِ أبي أيُّوبَ رَضيَ اللهُ عنه شَرفًا كَبيرًا، وفَضيلةً عَظيمةً له رَضيَ اللهُ عنه.