باب: وجوب الجهاد 2
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أنبأنا أبي، قال: أنبأنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: «إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا» فلما حولنا الله إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل الله عز وجل: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة} [النساء: 77]
الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ ذِروةُ سَنامِ الإسلامِ، وهو يَشمَلُ الجهادَ لدَفْعِ العدوِّ والجهادَ لفَتْحِ البُلدانِ ونَشْرِ دَعوةِ الإسلامِ؛ فبالجِهادِ تَعْلو كَلِمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ وتَقْوى شَوكةُ المسلِمين، فلا يَطمَعُ فيهم عدوُّهم ولا يَستبيحُهم
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما: "أنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عَوفٍ، وأصحابًا له أتَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بمكَّةَ"، أي: قَبلَ الهِجرةِ؛ "فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في عِزٍّ ونحن مُشرِكون"، أي: كانت لنا قُوَّةٌ ومَنَعَةٌ وَقتَما كنَّا على الشِّركِ، "فلمَّا آمَنَّا"، أي: دخَلْنا في الإسلامِ، "صِرنا أذِلَّةً"؛ إشارةً إلى ضَعْفِهم ولِما يتَعرَّضون له مِن أذًى مع قَومِهم، ومَقصِدُ الصَّحابةِ رَضِي اللهُ عَنهم التَّعريضُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بأنْ يَسمَحَ لهم بالقِتالِ والجِهادِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنِّي أُمِرتُ بالعَفوِ"، أي: عمَّا يقَعُ مِن المشرِكين عليهم مِن أذًى، "فلا تُقاتِلوا"، أي: يُؤكِّدُ عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالنَّهيِ عن القِتالِ، "فلمَّا حوَّلَنا اللهُ إلى المدينَةِ"، أي: بعد الهِجرَةِ، "أُمِرْنا بالقِتالِ"، أي: كتَب اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم القِتالَ والجِهادَ، "فكَفُّوا"، أي: مَنَعوا أنفُسَهم مِن القِتالِ، "فأَنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]"
قيل: كان المؤمِنون في ابتِداءِ الإسلامِ، وهم بمكَّةَ مَأمورين بالصَّلاةِ والزَّكاةِ، وإنْ لَم تكنْ مُحدَّدةَ الأنصابِ، وكانوا مأمورين بمُواساةِ الفُقراءِ منهم، وكانوا مَأمورين بالصَّفحِ والعَفوِ عن المشركين والصَّبرِ إلى حينٍ، وكانوا يتَطلَّعون إلى القِتالِ ليتَشفّوا مِن أعدائِهم، قيل: ولَم يَكُنِ الحالُ إذْ ذاك مُناسِبًا لأسبابٍ كَثيرةٍ؛ منها: قلَّةُ عدَدِهم بالنِّسبةِ إلى كَثرةِ عدَدِ عدوِّهم، ومنها كونُهم كانوا في بلَدِهم، وهو بلَدٌ حَرامٌ، وأشرَفُ بِقاعِ الأرضِ، فلَم يَكُنِ الأمرُ بالقِتالِ فيه ابتِداءً؛ فلهذا لَم يُؤمَرْ بالجِهادِ إلَّا بالمدينَةِ لَمَّا صارَت لهم دارٌ ومنَعَةٌ وأَنصارٌ، ومع هذا لَمَّا أُمِروا بما كانوا يوَدُّونَه جَزِعَ بَعضُهم منه، وخافوا مِن مُواجهَةِ النَّاسِ خوفًا شديدًا، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، أي: لولا أخَّرتَ فَرْضَه إلى مُدَّةٍ أخرى؛ فإنَّ فيه سَفْكَ الدِّماءِ، ويُتْمَ الأولادِ، وتَأيُّمَ النِّساءِ.
ثم إنَّ الذين قالوا هذا الكَلامِ إنَّما هم فريقٌ مِن الصَّحابةِ لا كلُّهم، كما أشارَ إلى ذلك قولُه تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}، أي: يَخافونَ مِن مُشرِكي مَكَّةَ {كَخَشْيَةِ اللَّهِ}، وهذه الخَشيةُ وهذا الخوفُ ممَّا طُبِعَ عليه البشرُ مِن المخافَةِ لا مِنَ المخالَفةِ. وقيل: إن هذا الفَريقَ هم قومٌ أسْلَموا قبلَ فرْضِ القِتالِ، فلمَّا فُرِضَ كَرِهوه. وقيل: هو وصفٌ للمُنافِقين، والمعنى: يَخشَونَ القتلَ مِن المشرِكين، كما يَخشونَ الموتَ مِن اللَّهِ، {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، أي: عندَهم، وفي اعتقادِهم، ولعلَّ هذا أقربُ وأشبهُ بسِياقِ الآيةِ؛ لقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؛ فيَبعُدُ أن يَصدُرَ هذا القولُ مِن صحابيٍّ كريمٍ يعلمُ أنَّ الآجالَ مَحدودةٌ، والأرزاقَ مقسومةٌ، وقد كان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم أَسْرعَ الناسِ امتِثالًا لأوامِرِ اللَّهِ، وأحْرَصَهم على طاعتِه، ويَرَوْنَ الوُصولَ إلى الدَّارِ الآجلةِ خَيرًا مِن المقامِ في الدَّارِ العاجِلةِ؛ فالأقربُ أنَّ قائِلَ ذلك ممَّن لَمْ يَتحقَّقْ بالإيمانِ قَلبُه، ولا انشرَحَ بالإسلامِ صَدْرُه ؟