باب وصية الإمام2
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة
عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر رجلا على سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، فقال: اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا أنت لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خلال أو خصال، فأيتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم إن هم فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام، فسلهم إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإن حاصرت حصنا، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيك، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيك، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة آبائكم أهون عليكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإن حاصرت حصنا، فأرادوك أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا"
كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّم دائمًا ما يذكِّر أصحابَه رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم باللهِ عزَّ وجلَّ ويَعِظُهم، ويعلِّمُهم مِن أمورِ دِينِهم، وفي هذا الحديثِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّم كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا على سَرِيَّةٍ، أي: جَعَلَ قائدًا عليها، و"السَّرِيَّةُ": جزءٌ مِن الجَيْشِ يَصِلُ قِوَامُها إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ جُنْدِيٍّ، "أو جَيْشٍ"، أي: أو جَعَلَ قائدًا على جَيْشٍ يُرِيدُ أن يُرسِلَهُ نَحْوَ عَدُوٍّ، "أَوْصَاهُ بِتَقْوَى الله فِي خاصَّةِ نَفسِه"، أي: وَعَظ الأميرَ وأمَرَه بتقوَى الله وأن يَخافَهُ فِي نفسِه قبلَ أن يخافَ غَيْرَه، "وبِمَن مَعَهُ مِن المُسْلِمِينَ خيرًا"، أي: ويُوصِيه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّم بِمَن مَعَهُ أن يَتَّقِيَ اللهَ فيهم ولا يَخُونَهم ولا يُشَدِّدَ عَلَيْهِم، وأن يُسَهِّلَ لَهُمْ مِن أمرِهم، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّم مُخَاطِبًا أميرَ السَّرِيَّةِ أو الجَيْشِ: "إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ"، والمُرَادُ بالعَدُوِّ: عَدُوُّ المُسْلِمِينَ، "فادْعُهُم إِلَى إحدَى ثَلاثِ خِصالٍ أو خِلالٍ"، أي: اعْرِضْ عَلَيْهِم ثلاثَ شُرُوطٍ مُرَتَّبة، والخَصْلَةُ والخَلَّةُ بمعنًى واحدٍ، وَهِيَ الصِّفَةُ والشُّعْبَةُ، "فأيَّتُها أجابوك إليها فاقْبَلْ مِنهُم وكُفَّ عنهُم"، أي: فإن نزَلوا على واحدٍ مِن تِلْكَ الشُّروطِ، فاقْبَلْ نُزولَهُم على ما وافَقُوا عَلَيْهِ ولا تُقاتِلْهم، وأوَّلُ تِلْكَ الخِصالِ: "ادْعُهُمْ إِلَى الإسلامِ، فإن أجابوك فاقْبَلْ مِنهُم وكُفَّ عَنهُم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التحوُّلِ مِن دارِهم إِلَى دارِ المُهَاجِرِينَ"، أي: اشْرِطْ عَلَيْهِمُ الإسلامَ على أن يُهاجِرُوا مِن دِيَارِهِمْ إِلَى دِيَارِ المُهَاجِرِينَ، وأَعلِمْهُم أنَّهُم إن فَعَلوا ذَلِكَ أنَّ لَهُمْ ما لِلمُهاجِرِينَ، وأنَّ عَلَيْهِم ما على المُهَاجِرِينَ"، أي: وأَعلِمْهم أنَّهُم بِهِجْرَتِهِمْ إِلَى بلادِ المُهاجِرِين لَهُم ما للمهاجِرينَ مِن حُقوقٍ وعَلَيْهِم ما على المُهَاجِرِينَ مِن واجباتٍ، فإن وَافَقُوا كُفَّ عن قِتالِهم، "فإن أَبَوْا واخْتَارُوا دارَهم"، أي: إن دَعَوْتَهم إِلَى الإسلامِ وأَسْلَمُوا، ورَفَضُوا الهِجْرَةَ واختاروا البقاءَ فِي وَطَنِهم، "فأَعلِمْهُم أنَّهُم يَكُونُونَ كأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ"، و"الأعرابُ": هم مَن يَسكُنونَ البادِيَةَ، "يَجرِي عَلَيْهِم حُكمُ الله الَّذِي يَجرِي على المُؤمِنِينَ"، أي: مِن أركانِ الإسلامِ كالصَّلاةِ والصَّومِ والزَّكاةِ وغيرِها، "ولا يَكُونُ لَهُم فِي الفَيْءِ والغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلَّا أن يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ"، أي: لِلَّذِينَ لم يَرْضَوْا بأن يُهاجِرُوا إِلَى ديارِ المُسْلِمِينَ، "فإن هُمْ أَبَوْا"، أي: امتَنَعُوا عن الاستجابةِ للإسلامِ، "فادْعُهُم إِلَى إعطاءِ الجِزْيَةِ"، وَهُوَ إشارةٌ للشَّرطِ الثانِي، و"الجِزْيَةُ": ما يُفرَضُ عليهم مِن أموالٍ، وفي ذلك صَغَارٌ لهم وَذِلَّةٌ لِكُفرِهم، وتكونُ الجزيةُ أيضًا مُقابِلَ عَدَمِ قِتالِهِمْ، وأُمُورٍ أُخرَى مِثلِ الدِّفَاعِ عنهُم ودُخولِهم في حِمايةِ المسلمينَ .
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "فإن أجابوا فاقْبَلْ مِنهُم وكُفَّ عنهُم"، أي: فإن قَبِلوا هذا الشرطَ بدَفعِ الجِزيَةِ إن لم يُسلِمُوا، فاقْبَلْ مِنهُم وامتَنِعْ عن قِتالِهم، "فإن أَبَوْا"، أي: امتَنَعُوا عن دفعِ الجِزيَةِ "فاسْتَعِنْ باللهِ تَعَالَى وقاتِلْهُم"، أي: اجْعَلِ اللهَ مُعِينَكَ فِي قتالِهم لِيَفْتَحَ عليكَ بالنَّصرِ، وَهذا إشارةٌ إِلَى الشَّرطِ الثالثِ، أي: إذ لم يَقْبَلُوا بالإسلامِ ولم يَقْبَلُوا بِدَفعِ الجزية فقَاتِلْهُم.
ثم قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وإذا حاصَرْتَ أهلَ حِصْنٍ" المُرادُ: حِصارُ غيرِ المُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ قتالٍ أو تسليمٍ، "فأرادوك أن تُنزِلَهُم على حُكمِ الله تَعَالَى"، أي: فأراد مَن تُحاصِرُهم أن تُنْزِلَهُمْ على حُكمِ الله تَعَالَى، "فلا تُنْزِلْهُم"، أي: فلا تُنزِلْهُم على حُكمِ الله؛ وذلك "لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ ما يَحكُمُ اللهُ فِيهِم"، أي: فإنَّكُم لَا تَعْلَمُونَ بأيِّ شَيْءٍ سَيَحْكُمُ اللهُ فِيهِمْ، فلا تَدْرُونَ هل سَتُصِيبُونَ حُكمَ الله أم تُخْطِئُونَهُ، "ولَكِنْ أَنزِلُوهُمْ على حُكمِكُم"، أي: افْرِضُوا عَلَيْهِم أن يَقبَلُوا بِحُكمِكُم، "ثُمَّ اقْضُوا فيهم بعدُ ما شِئتُم"، أي: اقْضُوا فِيهِم بِمَا هُوَ أَصْلَحُ للدِّين والدُّنيا، مع الاجتهادِ قدْرَ المستطاعِ وَفقَ الأصولِ الشرعيَّةِ؛ رجاءَ إصابةِ حُكمِ اللهِ فيهم. وفي رواية: (فإنَّكُم لا تَدرُون أتصيبون حُكم اللهِ فيهم أمْ لا)..