باب ومن سورة الأنفال2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال: حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل قال: حدثنا عبد الله بن عباس قال: حدثنا عمر بن الخطاب، قال: نظر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، إنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] فأمدهم الله بالملائكة. " هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث عمر إلا من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل. وأبو زميل: اسمه سماك الحنفي، وإنما كان هذا يوم بدر "
غَزوةُ بَدْرٍ هي المَلْحَمةُ الكُبرَى الأُولَى في تاريخِ المُسلِمِينَ؛ فبها فرَّقَ اللهُ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، وقدْ وقَعَت في رَمضانَ مِن العامِ الثَّاني مِن الهِجْرةِ مع كفَّارِ قُرَيشٍ، وكان جيشُ الكُفَّارِ يَزِيدُ عددًا وعتادًا عن جَيشِ المسْلِمين، وكَتَب اللهُ فيها النَّصرَ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه، وقُتِل في بَدرٍ سَبعون مِن كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وأُسِرَ منهم سَبعون.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عُمرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا كان يومُ غَزوةِ بَدْرٍ نَظَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى جيش المُشركينَ وكان عدَدهُم ألْفَ رجُلٍ، وكان جيشُ المسْلِمين ثلاثَ مائةٍ وتِسعةَ عشَرَ رجُلًا، فلمَّا رَأى نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الفارقَ بيْنَ الجيشينِ وقِلَّةَ عددِ المسْلِمين استقبَل القِبلةَ مُتوجِّهًا إلى اللهِ بالدُّعاءِ، ثمَّ مَدَّ يدَيْهِ رافعًا إيَّاها نحْوَ السَّماءِ؛ زِيادةً في التَّضرُّعِ والتَّوسُّلِ إلى اللهِ، فجَعَل يدعو وهو «يَهتِفُ» بربِّه، أي: يستغيثُ به ويبتهِلُ إليه في الدُّعاءِ، قائلًا: «اللَّهمَّ أنجِزْ» أي: أَوْفِ واقْضِ لي، «ما وعَدْتَني» مِن نُصرةِ الإسلامِ وغلَبتِه، «اللَّهمَّ آتِ ما وعَدْتَني، اللَّهمَّ إنْ تَهْلِكْ» أي: تُهْزَمْ هذه «العصابةُ»، وهي تُطلَقُ على الجماعةِ مِن الرِّجالِ، عددُهم الأَربعونَ فما فوْقَ ذلكَ، «مِن أهلِ الإسلامِ» يُشيرُ بذلك إلى أصحابِه الَّذين يَقِفون في الصُّفوفِ لقِتالِ المشْرِكين، «لا تُعْبَدْ في الأرضِ» قال ذلك لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمُ النَّبيِّينَ، وهؤلاء خاتَمُ الأُمَمِ، فإذا هلَكوا لا يَبقى مَن يعبُدُ اللهَ، فما زال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تلك الحالِ مِن التَّضرُّعِ للهِ عزَّ وجلَّ بالنَّصرِ على المشْرِكين «حتَّى سقَط رداؤُه عن مَنكِبَيْهِ» أي: كَتِفَيْه، والرِّداءُ هو الثَّوبُ الَّذي يُغطِّي النِّصفَ الأعلى مِن الجسدِ، وهذا بيانٌ لشِدَّةِ اجتهادِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخُشوعِه في الدُّعاءِ، فأتى أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وأخَذ الرِّداءَ فرَدَّه إلى كَتِفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «ثمَّ التزَمه مِن وَرائِه» أي: ضَمَّه إلى صَدرِه واعتَنقَه إرفاقًا به وشَفقةً، وقال: «يا نبيَّ اللهِ، كفاكَ مُناشدتُك ربَّكَ» والمُناشَدةُ: السُّؤالُ بصوتٍ مُرتفعٍ؛ «فإنَّه سيُنجِزُ لكَ ما وعَدَكَ» مِن النَّصرِ على أعدائِكَ، وهذا مِن إيمانِ وعِلمِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُجِيبُ دَعوةَ نَبيِّه، فأنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فأمَدَّه اللهُ عزَّ وجلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالملائكةِ عونًا له وللمُسلِمين على أعداءِ اللهِ مِن المُشركين.
ويَرْوي ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه بيْنما رجُلٌ مِن المُسلِمينَ يومَ غَزوةِ بَدرٍ «يشتَدُّ»، أي: يُسرِعُ ويَعْدو «في أثَرِ»، أي: وَراءَ رجُلٍ مِن المُشركين يَهرَبُ منه أمامَه؛ إذ سَمِعَ هذا الرَّجلُ المُسلمُ صوتَ ضربةٍ بالسَّوطِ فوق المُشركِ، وصوتَ الفارسِ يقولُ: «أقدِمْ حَيْزومُ»، وهو اسمُ فرَسِه، والمعنى: تَقدَّمْ أو أسْرِعْ يا حَيْزومُ نحْوَ العدوِّ، فنَظَر المُسلمُ إلى المُشركِ أمامه فوجده «خرَّ مُستلقيًا»، أي: سقَط على ظَهرِه، فإذا المُشركُ، قد "خُطِمَ أنفُه"، وهو الأثَرُ على الأنفِ، أي: كُسِرَ، «وشُقَّ وجهُه» قُطِعَ طُولًا، والجرحُ ظاهرٌ عليه أثَرُ سَوطٍ لا أثَرُ سَيفٍ ونحوِه، فاخضَرَّ ذلك أجمعُ، أي: صار موضعُ الضَّربِ كلُّه أخضرَ، أو أسودَ؛ فإنَّ الخُضرةَ قد تُستعمَلُ بمعنَى السَّوادِ، وذلك مِن شِدَّةِ الضَّربةِ وأثَرِ السَّوطِ، أو أنَّه زيادةٌ في التَّنكيلِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ بالكافرِ، فرجَعَ المسْلمُ وكان أنصاريًّا -وهُم أهلُ المدينةِ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخبَرَه بما سَمِع ورَأى، فصَدَّقه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: «ذلك مِن مَدَدِ» أي: إنَّ هذا مَلكٌ مِن ملائكةِ السَّماءِ الثَّالثةِ، الَّذي أمَدَّ اللهُ سُبحانه بهم نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والصَّحابةَ المجاهِدين في المعركةِ، ثمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ المُسلِمين قَتَلوا يَومَئذٍ مِن المشرِكين سَبعين وأسَروا سَبعين.
وروى عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ المسْلِمين لمَّا أخذوا أسارى مِن المشْرِكين، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بَكرٍ وعُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما: «ما ترَوْنَ في هؤلاء الأُسارى؟» أي: بماذا تَقْضون فيهم؟ فقال أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: «يا نبيَّ اللهِ، هم بنو العَمِّ والعَشيرةِ» يُريدُ أنَّ هؤلاء الأسرى هُم في الأصلِ أهلُنا وأقاربُنا، «أرى أنْ تأخُذَ منهم فِديةً» أي: مالًا يَفْدُون به أنفُسِهم مِن القتلِ، ويكون هذا المالُ لنا قوَّةً على الكفَّارِ وعندَ حَربِنا معهم، ولعلَّ اللهَ يَهْدي منهم ويَدخُلُ الإسلامَ مُستقبَلًا، ثمَّ سَأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُمرَ عن رأيِه، فقالَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «لا، واللهِ! ما أرى الَّذي رأى أبو بكرٍ» أي: لا نَأخُذُ منهم الفِديةَ ونُطلِقُهم، «ولكنِّي أرى أنْ تُمكِّنَّا فنَضرِبَ أعناقَهم» يُريدُ رَضيَ اللهُ عنه قَتْلَهم، فتُمكِّنَ علِيَّ بنَ أبي طالبٍ مِن أخيه عَقيلٍ المشرِكِ المأسورِ، فيَضرِبَ عُنقَه، «وتُمكِّنِّي مِن فلانٍ نسيبًا لعُمرَ»، أي: قريبًا له، فأضرِبَ عُنقَه؛ «فإنَّ هؤلاء أئمَّةُ الكفرِ وصَناديدُها»، أي: كِبارُهم وزُعماؤهم، وإنَّهم مَن تَولَّوا أمْرَ الحربِ وألْجؤوهم إلى الهجرةِ مِن مكَّةَ، «فهَوِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما قال أبو بَكرٍ» أي: أحَبَّه واستحسَنَه، ولم يَرغَبْ فيما ما قاله عُمَرُ.
فلمَّا كان مِن الغدِ -وهو صباحُ اليومِ التَّالي- جاء عُمرُ فوجَدَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بكرٍ قاعدَيْنِ يَبكيانِ، فسَألهما عن سَببِ بُكائِهما، وقال: «فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لم أجِدْ بكاءً تباكَيْتُ» أي: تَكلَّفْتُ البُكاءَ لبُكائِكما؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَبْكِي للَّذي عرَض عليَّ أصحابُك مِن أخْذِهم الفِداءَ» في الأمسِ «لقدْ عُرِضَ عليَّ عذابُهم أدْنى مِن هذه الشَّجرةِ»، أي: أقرَبَ منها، يُشيرُ إلى شَجرةٍ كانت قريبةً منه صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أيْ لقد رأَيتُ ما كان سيَحُلُّ بهم مِن العَذابِ الدُّنيَويِّ الذي كان قَريبَ الوُقوعِ بهم قُربَ هذه الشَّجرةِ لَولا كِتابٌ مِن اللهِ سبَقَ إثباتُه في اللَّوحِ المَحفوظِ وهو أنْ لا يُعذِّبَ قَومًا على فِعلٍ قَبلَ أنْ يُبيِّنَ لهم حُكمَه أمرًا أو نهيًا وكذلك لَولا كِتابٌ مِن اللهِ سبَقَ بإباحةِ الغَنيمةِ وفِداءِ الأسرَى لهذه الأُمَّةِ؛ لَولا ذلك لمَسَّهم العَذابُ العَظيمُ. وهذا العِتابُ لأنَّهم اختارُوا الفِداءَ وهو أوهَنُ الرَّأيَينِ، فعُوتِبوا على اختيارِ الأَوهَنِ، وقد كان أمْرُ بَدرٍ عَظيمَ المَوقِعِ فكان الصَّوابُ هو الرَّأيُ الأقوَى وهو الإثْخانُ في الأرضِ والمُبالَغةُ في القَتلِ ابتِداءً لإدخالِ الرُّعبِ في قُلوبِ الكافِرينَ ولتَوطيدِ دَعائمِ الدِّينِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في عِتابِهم: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 67 - 69]، فأحَلَّ اللَّهُ الغَنِيمَةَ لهمْ بعَفوِه ورَحمتِه.
وفي الحديثِ: فَضلُ أبي بكرٍ وعُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ العَملَ بالشُّورى.
وفيه: فضلُ الدُّعاءِ وأهميَّتُه وآدابُه.
وفيه: بيانُ بعضِ الكَراماتِ الَّتي حدَثَتْ في غزوةِ بَدْرٍ.
وفيه: مواساةُ الأحبَّةِ والخِلَّانِ بالبُكاءِ والتَّباكي لبُكائهم.
وفيه: بَيانُ عَظيمِ نِعمةِ اللهِ تَعالَى على هذه الأُمَّةِ؛ حيث أباحَ لهم في تلك الغزوةِ الغنائمَ، بعْدَ أنْ كانت مُحرَّمةً على الأنبياءِ الأوَّلينَ.