باب: ومن سورة الذاريات1
سنن الترمذى
حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن سلام، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن رجل، من ربيعة قال: قدمت المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده وافد عاد، فقلت: أعوذ بالله أن أكون مثل وافد عاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما وافد عاد»؟ قال: فقلت: على الخبير بها سقطت، إن عادا لما أقحطت بعثت قيلا فنزل على بكر بن معاوية فسقاه الخمر وغنته الجرادتان، ثم خرج يريد جبال مهرة فقال: اللهم إني لم آتك لمريض فأداويه ولا لأسير فأفاديه، فاسق عبدك ما كنت مسقيه، واسق معه بكر بن معاوية، يشكر له الخمر التي سقاه، فرفع له سحابات، فقيل له: اختر إحداهن، فاختار السوداء منهن، فقيل له: خذها رمادا رمددا، لا تذر من عاد أحدا، وذكر أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر هذه الحلقة - يعني حلقة الخاتم ثم قرأ: {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} [الذاريات: 42] الآية: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن سلام أبي المنذر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان " ويقال له: الحارث بن يزيد "
قصَّ اللهُ علَينا في كِتابِه كَثيرًا ممَّا حصَل بينَ الأنبياءِ وأقوامِهم، وبيَّن لنا مآلَ الصَّالِحين، وعاقِبةَ المكذِّبين، ومِن هؤلاء المكذِّبين قومُ عادٍ الَّذين أرسَل اللهُ إليهم نبيَّه هودًا عليه السَّلامُ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ الحارثُ بنُ يَزيدَ البَكريُّ رَضِي اللهُ عَنه: "قَدِمتُ المدينةَ، فدَخَلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فذَكَرتُ عِندَه"، أي: عندَ رسول اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وأنا في مجلسه، "وافِدَ عادٍ"، والوافِدُ هو المختارُ مِن قومِه لِيَنوبَ عنهم في المهمَّاتِ، وعادٌ هم قومُ هودٍ عليه السَّلامُ، "فقلتُ"، القائلُ هو الحارِثُ البكريُّ: "أعوذُ باللهِ"، أي: ألتَجِئُ إليه، وأطلُبُ منه الحمايةَ "أنْ أكونَ مِثلَ وافدِ عادٍ"، أي: في مِثْلِ صِفَتِه وحالتِه، ومآلِه وعاقبتِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وما وافدُ عادٍ؟"، أي: ما قصَّةُ وافدِ عادٍ؟ وما الَّذي حصَل له؟ "قال" الحارثُ: فقلتُ: "على الخَبيرِ بها سقَطتَ"، أي: صادَفتَ خَبيرًا بحقيقةِ وافدِ عادٍ، عارِفًا بقِصَّتِه، وهذه قِصَّتُه: "إنَّ عادًا"، أي: قومَ هودٍ، "لَمَّا أُقحِطَت"، بصيغَةِ المجهولِ، أي: عِندَما انقطَع وانحبَس عنها ماءُ المطرِ، ولم تُخرِجِ الأرضُ نَباتَها وجاء القَحطُ، "بَعَثَت"، أي: أرسَلَت عادٌ "قَيْلًا"، أي: رجُلًا يُقالُ له: قَيْلُ بنُ عَنزٍ إلى مَكَّةَ يَستَسْقي لهم ويَدْعو عندَ الكعبةِ، "فنزَل" هذا الرَّجلُ ضيفًا "على بَكرِ بنِ مُعاويةَ بنِ وائلٍ"، رجلٍ، أو مَلكٍ مِن الملوكِ كان في زمَنِ عادٍ، "فسَقاه" بَكرٌ "الخَمْرَ" الَّذي كان عِندَه، "وغَنَّتْه الجَرادَتان"، وهُما جارِيَتانِ مُغنِّيَتانِ كانَتا بمكَّةَ في ذلك الزَّمنِ، مَشهورَتان بحُسْنِ الصَّوتِ والغناءِ، فمكَث وافدُ عادٍ ضيفًا عندَ بكرِ بنِ مُعاويةَ شهرًا يَسْقيه الخَمرَ وتُغنِّيه الجارِيَتانِ، "ثمَّ خرَج" وافدُ عادٍ، "يُريدُ جِبالَ مَهْرةَ"، وهي جبال بني مُهرَة، وهو مَهْرةُ بنُ حَيْدانَ، حيٌّ مِن أحياءِ العرَبِ، "فقال" وافِدُ عادٍ الَّذي يُقال له: قَيْلٌ، داعيًا: "اللَّهمَّ إنِّي لم آتِك لِمَريضٍ"، أي: لم أَجِئْ لأجلِ مَريضٍ، "فأُداوِيَهْ"، أي: أطلُبَ له الدَّواءَ، "ولا لأَسيرٍ"، أي: ولا لأجلِ أَسيرٍ، "فأُفادِيَهْ"، أي: أطلُبَ له الفِداءَ، "فاسْقَ عبدَك"، أي: هو ومعَه قومُه عادٌ، "ما كُنتَ مُسقِيَهْ"، مِن غَيثِك ومطَرِك، "واسْقِ معَه بَكْرَ بنَ مُعاوِيَةْ"، أي: وأنزِلِ المطرَ والغيثَ على بَكرِ بنِ وائلٍ أيضًا؛ "يَشكُرُ له الخَمرَ الَّتي سَقاه"؛ وذلك لأنَّه سَقاه خمرًا، فأراد بالدُّعاءِ له شُكْرَه، "فرُفِع له" بصيغةِ المَفعولِ، أي: فرَفَع اللهُ له أو أمَر الملائكةَ أن تَرفَعَ له، "سَحاباتٌ"، أي: قِطعٌ مِن السَّحابِ، "فقيل له"، أي: لِقَيلٍ وافدِ عادٍ: "اختَرْ إحداهنَّ"، أي: اختَرْ واحدةً مِن قِطَعِ السَّحابِ هذه، "فاختار" قَيلٌ وافدُ عادٍ، "السَّوداءَ"، أي: السَّحابةَ السَّوداءَ؛ لِظنِّه أنَّها مُمتلِئةٌ بالماءِ، "منهنَّ"، أي: مِن بينِ سائِرِ قِطَعِ السَّحابِ، "فقِيل له"، أي: لِقَيلٍ وافدِ عادٍ: "خُذْها"، أي: هذه السَّحابةَ السَّوداءَ الَّتي اختَرْتَها، "رَمادًا رِمْدِدًا"، الرِّمْدِدُ بالكَسْرِ: الْمُتناهي في الاحتِراقِ والدِّقَّةِ؛ وذلك للمُبالَغةِ في الاحتراقِ، "لا تَذَرُ" هذه السَّحابةُ، "مِن عادٍ أحَدًا"، أي: مِن قومِ عادٍ أحدًا فتَترُكُه حيًّا، بل تُهلِكُهم جميعًا.
"وذكَر" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عندَ ذلك "أنَّه لم يُرسَلْ عليهم"، أي: على قومِ عادٍ، "مِن الرِّيحِ" الَّتي أهلَكَتْهم، "إلَّا قَدْرُ"، أي: مِقدارُ، "هذه الحَلْقةِ يَعْني حَلْقةَ الخاتَمِ"، الَّذي كان يَلبَسُه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "ثمَّ قرَأ" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ}، أي: على قومِ عادٍ، {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، أي: الرِّيحَ الَّتي لا خيرَ فيها مِن مَطرٍ أو غيرِه، {مَا تَذَرُ}، أي: لا تَترُكُ هذه الرِّيحُ {مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ}، أي: مرَّتْ به، {إِلَّا جَعَلَتْهُ}، أي: صيَّرَته {كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، أي: العَظْمِ البالي أو الهشيمِ المتفتِّتِ مِن النَّباتِ، "الآيةَ"، الَّتي أنزَلها اللهُ تعالى.
وهذه القصَّةُ قيلَتْ وذُكِرَتْ في حَضرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ولم يُنكِرْها؛ فيَكونُ ذلك إقرارًا بصِحَّتِها، وذِكرُ مكَّةَ في رِواياتِ هذه القصَّةِ مُشكِلٌ؛ فقد قيل: الظَّاهرُ أنَّ هذه القصَّةَ تَخُصُّ عادًا الأخيرةَ لذِكْرِ مكَّةَ فيها، وإنَّما بُنِيَت مكَّةُ بَعدَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حين أسكَن هاجرَ وإسماعيلَ بوادٍ غيرِ ذي زَرعٍ، فالَّذين ذكَروا في سورةِ الأحقافِ هم عادٌ الأخيرةُ، ويَلزَمُ عليه أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: {أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] نبيٌّ آخَرُ غيرُ هودٍ. وقيل: كانتْ هذه القصَّةُ قبلَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بكَثيرٍ، وكان موضِعُ البيتِ الحرامِ له حُرمةٌ، ولكنَّ الَّذي رفَع قواعِدَ البيتِ هو إبراهيمُ بعدَ ذلك الحادثِ بزَمانٍ طويلٍ.
وفي الحديثِ: تَواضعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لأصحابِه وتَصديقُه لهم.
وفيه: بيانُ عاقبةِ الظَّالِمين والمكذِّبين مِن الأممِ السَّابقين.