باب: ومن سورة بني إسرائيل8
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقال: سلوه عن الروح، فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]، قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزلت {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر} [الكهف: 109] إلى آخر الآية. هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
أيَّدَ اللهُ سُبحانه وتَعالى نَبيَّه محمَّدًا بعِلمِ بعضِ الغَيبيَّاتِ التي سأَلَه عنها المشرِكون واليهودُ، فأجابَهم بما يُفحِمُهم، ويُرشِدُهم إلى الهِدايةِ والإيمانِ باللهِ بإقامةِ الحُجَّةِ عليهم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "قالتْ قُريشٌ لِيَهودَ: أَعطُونا شيئًا نَسأَلُ هذا الرجُلَ"، أي: أَعطُونا شيئًا ممَّا عِندَكم به عِلمٌ لِنَسأَلَ عنه محمَّدًا؛ لِنَختبِرَه به، "فقالوا: سَلُوه عن الرُّوحِ"، أي: عن كُنْهِها وحَقيقتِها، وقد سَأَلوه عن الرُّوحِ التي تكونُ بها الحياةُ، كما في رِوايةِ الطَّبَريِّ: "عن الرُّوحِ، وكيف تُعذَّبُ الرُّوحُ التي في الجسَدِ، وإنَّما الرُّوحِ مِن اللهِ؟!" قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، أي: إنَّ الرُّوحَ أمْرٌ ربَّانيٌّ استأثَرَ اللهُ سُبحانه وتَعالى بعِلمِه دونَ ما سِواهُ، وإنَّ العِلمَ الَّذي لَدَيكم ليس إلَّا شيئًا قليلًا وجُزءًا يَسيرًا؛ لأنَّ عِلْمَ الإنسانِ بالغًا ما بلَغَ؛ فهو مَحدودٌ، وعقْلُه أيضًا محدودٌ، وأسرارُ هذا الوُجودِ أوسَعُ مِن أنْ يُحيطَ بها العَقلُ البَشريُّ المحدودُ.
"قالوا: أُوتِينا عِلمًا كثيرًا؛ التَّوراةَ"، وهذا إقرارٌ منهم بما عِندهم مِن العِلمِ الموجودِ في التَّوراةِ المُنزَّلةِ على نَبيِّ اللهِ مُوسى، "ومَن أُوتِيَ التَّوراةَ فقد أُوتِيَ خيرًا كثيرًا"، ولو أنَّهم صَدَقوا لاتَّبَعوا ما فيها مِن الحقِّ، وآمَنوا بالنبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي يَجِدونه عِندَهم في التَّوراةِ، "فأنزَلَ اللهُ تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109]، أي: لو أنَّ ماءَ البَحرِ حِبرًا للقَلَمِ الذي يَكتُبُ كلامَ اللهِ، {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]، يعني: لَانتَهى ماءُ البحرِ قبْلَ أنْ يَنفَدَ كلامُ ربِّي وحكمِه، إلى آخِرِ الآيةِ. وفي هذه الآيةِ إثباتُ صِفةِ الكلامِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهي على الوَجهِ الذي يَليقُ به سبحانه وتعالى دُونَ تَكييفٍ أو تمثيلٍ بأحدٍ مِن خَلْقِه، وكلامُه سبحانَه وكَلِماتُه غير مخلوقةٍ، ولو كانتْ كَلماتُه مَخلوقةً لَنَفِدَتْ كما تَنفَدُ البِحارُ والأشجارُ وجميعُ المُحدَثاتِ، لكنْ كما لا يُحاطُ بوَصْفِه تعالى، كذلك لا يُحاطُ بكَلِماتِه وجميعِ صِفاتِه سُبحانَه.
في الحديثِ: أنَّ الرُّوحَ غَيبٌ، وسِرٌّ مِن أسرارِ اللهِ القُدُسيَّةِ.
وفيه: قِلَّةُ عِلمِ الإنسانِ وضآلَتُه، وأنَّ العقلَ البَشريَّ لا يُحيطُ بكلِّ شَيءٍ .