حديث أبي شريح الخزاعي 4
مسند احمد
حدثنا حجاج، قال: حدثنا ليث، قال: حدثني سعيد يعني المقبري، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة [ص:294]، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله عز وجل أذن لرسوله ولم يأذن لكم، إنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب "
في هذا الخبرِ يَرْوي سعيدُ بنُ أبي سعيدٍ المَقْبُريُّ، عن أبي شُريحٍ الخُزاعيِّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّه: "لَمَّا بعَثَ عمْرُو بنُ سَعيدٍ بَعْثَه يَغْزُو ابنَ الزُّبيرِ"، وكان سَعيدٌ والِيَ المدينةِ لِيَزيدَ بنِ مُعاويةَ، أرسَلَهُ يَزيدُ إلى مكَّةَ لِيَغْزُوَ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ، وكان قد تغلَّبَ عليها، "أتاهُ أبو شُريحٍ، فكلَّمَه وأخبَرَهُ بما سمِعَ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ خرَجَ إلى نادي قَومِه"، وهو مكانُ اجتماعِهم، "فجلَسَ فيه، فقُمْتُ إليه فجلسْتُ معه، فحدَّثٌ قوم قومَه كما حدَّثَ عمْرَو بنَ سَعيدٍ ما سمِعَ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَا قال له عمْرُو بنُ سَعيدٍ، قال: قلْتُ: ها أنا ذا كنَّا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ افتتَحَ مكَّةَ، فلمَّا كان الغَدُ مِن يَومِ الفتْحِ عَدَتْ خُزاعةُ"، أي: هَجَموا، "على رجُلٍ مِن هُذَيلٍ، فقَتَلوه وهو مُشرِكٌ"، وكانوا قد ثَأَروا مِن هذا الرَّجلِ مِن بَني لَيثٍ برَجُلٍ كان قدْ قتَلَه بنو لَيثٍ مِن خُزاعةَ، وخُزاعةُ وهُذيلٌ وبنو لَيثٍ مِن قبائِلِ العربِ، "فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِينا خَطيبًا، فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ حرَّمَ مكَّةَ يومَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، فهي حرامٌ مِن حرامِ اللهِ تعالى إلى يومِ القيامةِ"، أي: إنَّ تَحريمَ مكَّةَ أمْرٌ قديمٌ، وشَريعةٌ سالفةٌ ومُستمِرَّةٌ، ليس ممَّا أحْدَثهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو اختُصَّ بشَرْعِه، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ به التَّأْقيتُ، أي: إنَّما خلَقَ هذِه الأرضَ حِين خلَقَها مُحرَّمةً، وفي الصَّحيحَينِ: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مَكَّةَ ودَعَا لِأهْلِها"؛ فقِيل: إنَّ تَحريمَها كان ثابتًا مِن يومِ خلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، ثُمَّ خفِيَ تَحريمُها واستمرَّ خفاؤُه إلى زَمنِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فأَظْهَره وأشاعَه، لا أنَّه ابتدأَهُ. وقيل: معناهُ: أنَّ اللهَ كتَبَ في اللَّوحِ المحفوظِ أو في غيرِه يومَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ: إنَّ إبراهيمَ سيُحرِّمُ مَكَّةَ بأمْرِ اللهِ تعالى، قال: "لا يَحِلُّ لِامرئٍ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يَسفِكَ فيها دمًا، ولا يَعضِدَ بها شَجرًا"، أي: لا يَكْسِرَها ولا يَقطَعَها، "لم تَحْلِلْ لِأحدٍ كان قبْلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ يكونُ بَعْدي، ولم تَحلِلْ لي إلَّا هذه السَّاعةَ؛ غضبًا على أهْلِها، ألَا ثُمَّ قد رجَعَتْ كحُرمَتِها بالأمسِ"، أي: إنَّ مَكَّةَ بَلدٌ حرامٌ، لم يَحِلَّ فيها القِتالُ إلَّا وقتَ دُخولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاها فَاتِحًا، ثُمَّ عادَتْ حُرْمَتُها كما كانتْ، "ألَا فلْيُبلِّغِ الشَّاهدُ منكم الغائبَ، فمَن قال لكم: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد قاتَلَ بها، فقولوا: إنَّ اللهَ قد أحَلَّها لرسولِه، ولم يُحْلِلْها لكم. يا مَعشرَ خُزاعةَ، ارْفَعوا أيدِيَكم عن القَتْلِ"، أي: كُفُّوا وانتَهَوا عن القتْلِ في مكَّةَ، "فقد كثُرَ أنْ يقَعَ، لَئِن قَتلْتُم قَتيلًا لَأَديَنَّهُ"، أي: أدفَعُ الدِّيةَ لِأوليائِه، "فمَن قُتِلَ بعدَ مَقامي هذا، فأهْلُه بخيرِ النَّظرينِ؛ إنْ شاؤوا فدَمَ قاتِلِه"، أي: يُقتَلُ القاتلُ قِصاصًا، "وإنْ شاؤوا فعَقْلَه"، أي: إنْ شاؤوا أخَذوا الدِّيةَ المُغلَّظةَ، "ثمَّ ودَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي قَتلَتْه خُزاعةُ"، أي: أعْطى الدِّيةَ في الَّذي قَتلَتْهُ قَبيلةُ خُزاعةَ مِن بني لَيثٍ. فقال عمْرُو بنُ سَعيدٍ لأبي شُريحٍ: "انصرِفْ أيُّها الشَّيخُ؛ فنحن أعلَمُ بحُرْمَتِها منك، إنَّها لا تَمنَعُ"، أي: لا تَحْمي، "سافِكَ دَمٍ"، أي: حرامٍ، "ولا خالِعَ طاعةٍ"، أي: لِأَميرِه، "ولا مانِعَ جِزيةٍ"، ولعلَّه رأى ذلك في عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رضِيَ اللهُ عنه، فاستحَلَّ قِتالَه في البلَدِ الحرامِ، قال أبو شُريحٍ رضِيَ اللهُ عنه: "فقلْتُ: قد كنتُ شاهِدًا"، أي: مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "وكنْتَ غائبًا"، أي: وأنت غيرُ حاضرٍ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم تَسمَعْ منه، "وقد بلَّغْتُ، وقد أمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبلِّغَ شاهِدُنا غائبَنا، وقد بلَّغْتُك، فأنت وشأْنُك"، فقد بلَغَك الأمْرُ
وفي الحديثِ: بَيانُ حُرمةِ مكَّةَ الدَّائمةِ