حديث قتادة بن النعمان 1
مسند احمد
حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا زهير يعني ابن محمد، عن شريك يعني ابن عبد الله بن أبي نمر تميم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، وعمه قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا لحوم الأضاحي وادخروا»
الإسلامُ دِينُ التَّوحيدِ الخالصِ للهِ عزَّ وجلَّ وإفرادِه بالعِباداتِ والقُرباتِ، وأمَرَ النَّاسَ بإخلاصِ النِّيَّةِ في القُرباتِ والطَّاعاتِ للهِ؛ ولذلك نَهَى عن كُلِّ عبادة لغير الله تعالى، ومن ذلك: الذَّبحُ لغيرِ اللهِ. كما علَّمَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّكافُلَ والتَّراحُمَ فيما بيْننا، وهذا مِن تَمامِ الإخلاصِ والامتثالِ لِأوامِرِ اللهِ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ رَبيعةُ بنُ أبي عبدِ الرَّحمنِ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ: "أنَّه قَدِمَ مِن سفَرٍ، فقدَّمَ إليه أهْلُه لَحمًا، فقال: انْظُروا أنْ يكونَ هذا مِن لُحومِ الأضاحي"، أي: يُنبِّهُهم أبو سعيدٍ ويَستفسِرُ منهم: هل كان هذا اللَّحمُ مُخزَّنًا مِن لُحومِ الأضاحي ولم يُوزَّعْ؟ فقال أهْلُه: "هو مِنها"، أي: هذا مِن لَحمِ الأضاحي، فقال أبو سعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه: "ألم يكُنْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نهى عنها؟" أي: نهى عن الادِّخارِ منها، فقالوا: "إنَّه قد كان مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَك فيها أمْرٌ"، أي: أحَلَّها بعدَ أنْ نَهى عنها، "فخرَجَ أبو سعيدٍ، فسأَلَ عن ذلك"، أي: خرَجَ يَستوثِقُ مِن الخبَرِ، "فأُخْبِرَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: نَهيتُكم عن لُحومِ الأضاحي بعدَ ثلاثٍ، فكُلوا وتَصدَّقوا وادَّخِروا"، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهى صاحِبَ الأُضحيَّةِ أنْ يُبقِيَ مِن لَحْمِ أُضحيَّتِه إلى ما بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ، وأمَرَهُ أنْ يُخرِجَها إلى مَن يَحتاجُها، وأوَّلُ هذه الأيَّامِ يومُ النَّحرِ؛ فمَن ضَحَّى فيه أمسَكَ في يومِ النَّحرِ، ويومَينِ بعدَه، ومَن ضَحَّى بعدَ يومِ النَّحرِ، فلْيُمْسِكْ ما تبقَّى له مِن الثَّلاثةِ الأيَّامِ بعدَ يومِ النَّحرِ. وقيل: أوَّلُ هذه الأيَّامِ هو اليومُ الَّذي يُضحِّي فيه، فلو ضحَّى في آخِرِ أيَّامِ النَّحرِ، لكانَ له أنْ يُمسِكَ ثلاثةَ أيَّامٍ بعدَه. وعِلَّةُ النَّهيِ عن ذلك: أنَّ فُقراءَ الأعرابِ حضَروا إلى المدينةِ، فاحْتاجُوا إلى الصَّدقةِ والمُواساةِ، فلمَّا زالَتْ عِلَّةُ الحاجةِ والفَقرِ، أمَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأكُلوا مِن لُحومِ الأضاحي في أيِّ وقْتٍ شاؤوا، ويَدَّخِروا
"ونَهيتُكم عنِ الانتباذِ فانْتَبِذوا"، أي: نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شُربِ النَّبيذِ في الأوعيةِ في أوَّلِ الأمْرِ، والانتِباذُ: أنْ يُوضَعَ الزَّبيبُ أو التَّمرُ في الماءِ، ويُشرَبَ نَقيعُه قبْلَ أنْ يَختمِرَ ويُصبِحَ مُسكِرًا، وكان النَّهيُ عن الانتباذِ في الأوعيةِ الَّتي كانوا يَشرَبون فيها، والسَّببُ في النَّهيِ عن هذه الأوعيةِ: أنَّ ما يُلْقى فيها يُسرِعُ ويَعجَلُ إليه الإسكارُ، ثمَّ أباحَها لهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ قال: "وكلُّ مُسكِرٍ حرامٌ"، أي: اشْرَبوا في أيِّ إناءٍ تَختارون، بشَرْطِ ألَّا يَصيرَ ما تَشرَبون مُسكِرًا؛ فظَهَر أنَّ عِلَّةَ النَّهيِ هي الإسكارُ، وليست الآنِيةَ، فمَتى وُجِدَ الإسكارُ وُجِدَ النَّهيُ
"ونَهيتُكم عن زِيارةِ القُبورِ فزُورُوها"، وإنَّما كان نَهيُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم في أوَّلِ الأمرِ؛ لِقُربِ عَهدِهم بالجاهليَّةِ وما يَفعَلونه ويتَكلَّمون به مِن أُمورٍ تُخالِفُ الإسلامَ؛ مِن تَعظيمِ القُبورِ، وغيرِ ذلك، فلمَّا استَقرَّ الإسلامُ في نُفوسِهم، ومَحا آثارَ الجاهليَّةِ، وعَلِموا أحكامَ الشَّرعِ: أمَرَهم بزِيارتِها؛ لِمَا في زِيارتِها مِن تَرقيقِ القُلوبِ، والتَّزهيدِ في الدُّنيا والتَّقلُّلِ منها، وتَذكيرٍ بالآخِرةِ والإقبالِ عليها. وقيل: سمَحَ للرِّجالِ بالزِّيارةِ بعدَ نَهْيِهم عن ذلك، وبَقِيَ النَّهيُ ولم يُرفَعْ في حقِّ النِّساءِ؛ لِمَا ورَدَ مِن نُصوصٍ تَخُصُّهم بالنَّهيِ
"ولا تَقولوا هُجْرا- يعني: لا تَقولوا سُوءًا-"، أي: مِن القولِ أو الفِعْلِ
وفي الحَديثِ: أنَّ زِيارةَ القُبورِ تُذَكِّرُ بالموتِ وبِالآخرَةِ
وفيه: بَيانُ سَعَةِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، ورَفْعِها للحرَجِ ما أمكَنَ، ومُراعاةِ الشَّريعةِ لِظُروفِ النَّاسِ والتَّخفيفِ عليهم
وفيه: وُقوعُ النَّسْخِ في السُّنَّةِ، وقد ذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نماذِجَ مِن النَّاسخِ والمنسوخِ في هذا الحديثِ