فضائل بلال 1
سنن ابن ماجه
حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زائدة بن قدامة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش،
عن عبد الله بن مسعود، قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد (1).
لقدْ لاقَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُسلمونَ الأوائلُ أهوالًا وصِعابًا شديدةً في سَبيلِ الدَّعوةِ إلى اللهِ، وكانوا صابرينَ، ولهم فضْلٌ عَظيمٌ عندَ اللهِ، وفي هذا الخبرِ يَحكي عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه عن بَعضِ تِلك الأحوالِ، فيقولُ: "كان أوَّلُ مَن أظهَرَ إسلامَه سبْعةً"، أي: أعْلَنوا إسلامَهم بينَ كُفَّارِ قُريشٍ، وهم: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضِيَ اللهُ عنه، وعمَّارُ بنُ ياسرٍ، وأمُّه سُميَّةُ، وصُهَيبُ بنُ سِنانٍ الرُّوميُّ، وبلالٌ بنُ رباحٍ المُؤذِّنُ، والمِقدادُ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهم.
قال ابنُ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "فأمَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فمنَعَه اللهُ بعَمِّه أبي طالبٍ"، حيث كان عمُّه- مع أنَّه على الكُفْرِ- سببًا مِن اللهِ في حمايةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أذى المُشركينَ حينَ عَرَفوا بدِينِه، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حزِنَ حُزْنًا شديدًا لموتِه، "وأمَّا أبو بكرٍ فمنَعَه اللهُ بقومِه"، أي: وكان سبَبًا مِن اللهِ في منْعِ أبي بكرٍ مِن أذى المُشركينَ قومُه وهم بنو تيمِ بنِ مُرَّةَ، "وأمَّا سائرُهم"، أي: بقيَّةُ السَّبعةِ ممَّا ذُكِروا، "فأخَذَهم المُشركونَ"؛ لأنَّهم لا قَرابةَ لهم بمكَّةَ تَحْميهم منهم؛ فبِلالٌ وصُهيبٌ وعمَّارٌ كانوا مِن الموالي، والمِقدادُ مِن الحُلفاءِ؛ لأنَّه مِن كِنْدةَ، "وألْبَسوهم أدراعَ الحديدِ" جمْع دِرْعٍ، وهي مَصنوعةٌ مِن الحديدِ مُقطَّعةً ومُفصلَّةً على الجَسدِ، "وصَهَروهم في الشَّمسِ"، أي: ألْقوهم فيها ليَذُوبَ شحْمُهم، والصَّهرُ: الإذابةُ، "فما منهم مِن أحدٍ إلَّا وقد وَاتَاهم" مِن المُواتاةِ، وهي المُوافَقةُ، وحُسْنُ المُطاوعةِ، "على ما أرادوا"، أي: أظْهَروا للمُشركينَ ما يُرْغِمُوهم عليه، وهو ما يُعرَفُ بالتَّقيَّةِ، والتَّقيَّةُ في مثْلِ هذا جائزةٌ؛ لقولِه عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، "إلَّا بلالًا؛ فإنَّه هانتْ عليه نفْسُه في اللهِ"، أي: صَغُرَت، وحَقُرَت عنده؛ لأجْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ أخذًا بالعزيمةِ، "وهان على قومِه"، أي: فلم يمْنَعوه؛ لأنَّه ليس مِن أنفُسِهم، وإنَّما هو مِن الموالي، "فأخذوه"، أي: أخَذَه مواليه مِن المُشركينَ، "فأعْطَوه الوِلْدانَ" جمْع وليدٍ، أي: الصِّبيانَ والعَبيدَ، "فجَعَلوا"، أي: شرَعَ الولْدانُ، "يطوفونَ به في شِعابِ مكَّةَ" جمْعِ شِعْبٍ، وهو الطَّريقُ في الجبَلِ، أو مَسِيلُ الماءِ في بطْنِ أرضٍ، أو ما انفرَجَ بينَ الجَبَلينِ، "وهو يقولُ: أحدٌ أحدٌ"، أي: وهو يقولُ في حالِ طوافِهم به وتعذيبِهم له: أحدٌ أحدٌ، أي: ربِّي أحدٌ، لا رَبَّ لي سِواه، فلا أعبُدُ ما تعبُدونَ، ولا أُوافِقُكم فيما طلَبْتُموه، وقدِ اشتَراهُ أبو بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه وأعتَقَه، كما في الصَّحيحِ مِن حديث عمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه.
وفي الحديثِ: بيانُ مَنقبةٍ هؤلاءِ المَذكُورِينَ بفَضْلِ سابقتِهم في الإسلامِ.
وفيه: أنَّ الإيمانِ محَلُّه القلْبُ، وهو مَدارُه ومُستَقرُّه، فلا يضُرُّ المُؤمنَ ما أجبَرَه الكُفَّارُ وغيرُهم على التَّلفُّظِ به مِن كلماتِ الكُفْرِ.
وفيه: أفضيلةُ بِلالٍ رضِيَ اللهُ عنه وعَظيمِ تَحمُّلِه للأذَى، وصَبْرِه في ذاتِ اللهِ تعالَى( ).