فضل فاتحة الكتاب
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل عليه السلام بصره إلى السماء، فقال: " هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته "
ما أَعظَم الدِّينَ الإسلاميَّ! وما أَعظَمَ ما فيه مِن البُشرياتِ الكثيرةِ الَّتي أعْطاها اللهُ لِنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأمَّتِه؛ فإنَّه سُبحانه أَنزَل عليه الذِّكرَ مِن القُرآنِ، وجَعَل ثَوابَ قِراءتِه عَظيمًا، فبكلِّ حَرفٍ حَسنةٌ، والحَسناتُ تُضاعَفُ، وخَصَّ سُبحانه بعضَ السُّورِ والآياتِ بفضْلٍ زائدٍ لِمَن قرَأَها؛ حَضًّا على قِراءتِها، وتَرْغيبًا فيها
وفي هذا الحديثِ ذِكرُ مِنْحةٍ رَبَّانيَّةٍ لِمَن قرَأَ سُورةَ الفاتحة وخَواتيمَ سُورةِ البقرةِ؛ فيَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ -وهو المَلَكُ الموكَّلُ بالوحْيِ- كان قاعِدًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: «بيْنما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وعنده جِبريلُ عليه السَّلامُ»، والمعنى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أخبَرَ أصحابَه رَضِي اللهُ عنهم -ومنهم ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما- بمُجالَسةِ جِبريلَ عليه السَّلامُ له، فـ«سَمِع» جِبريلُ عليه السَّلامُ، ويَحتمِلُ أنَّ الَّذي سَمِعَ هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، «نَقيضًا مِن فوقِه»، أي: في السَّماءِ، والنَّقيضُ: الصَّوتُ الصَّادرُ مِن حَرَكةِ شَيءٍ، فرَفَع جِبريلُ عليه السَّلامُ -أو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رأْسَه يَنظُرُ إلى مَصدرِ هذا الصَّوتِ، فأخبَرَ جِبريلُ عليه السَّلامُ أنَّ هذا بابٌ مِن السَّماءِ الدُّنيا، فُتِح اليومَ، ولم يُسبَقْ أنْ فُتِحَ إلَّا في هذا اليومِ، فنَزَل منه مَلَكٌ مِن الملائكةِ إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ مِن قبْلِ هذا اليومِ، وهذا كلُّه تَمهيدٌ لأمرٍ عَظيمٍ؛ لأنَّ فَتْحَ بابٍ مِن أبوابِ السَّماءِ لأوَّلِ مَرَّةٍ، ونُزولَ مَلَكٍ غيرِ جبريلَ لأوَّل مرَّةٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؛ يَدُلُّ على عِظَمِ الأمرِ المبعوثِ به، فلمَّا نزَلَ المَلَكُ سَلَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «أَبْشِرْ» والبشارةُ تكونُ بالخيرِ، «بنُورَينِ أُوتيتَهُما لم يُؤتَهُما نَبِيٌّ قَبْلك: فاتحةُ الكتاب، وخَواتيمُ سُورةُ البقرةِ»، أي: لمْ يُؤْتَ ثَوابَهما الخاصَّ بقِراءتِهما، وإلَّا فالقرآنُ كلُّه لم يُؤْتَه نَبيٌّ قبْلَه. وخُصَّت سُورةُ الفاتحةِ بهذا؛ لتَضمُّنِها جُملةَ مَعاني الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، فهي آخِذةٌ بأُصولِ القواعدِ الدِّينيَّةِ، والمَعاقدِ المعارفيَّةِ. وخَواتيمُ سُورةِ البقرةِ مِن أوَّلِ قولِه تعالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ...} إلى آخِرِ السُّورةِ، خُصَّت بذلك؛ لِما تَضمَّنَته مِن الثَّناءِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وعلى أصحابِه رَضِي اللهُ عنهم بجَميلِ انقيادِهم لمُقتضاها، وتَسليمِهم لمَعناها، وابتهالِهم إلى اللهِ تعالَى، ورَجوعِهم إليه في جَميعِ أُمورِهم، ولِما حَصَل فيها مِن إجابةِ دَعواتِهم بعْدَ أنْ عُلِّموها فَقالوها، فخَفَّفَ عنهم، وغفَرَ لهم، ونصَرَهم
ثمَّ قال المَلَكُ: «لنْ تَقرَأَ بحَرفٍ منهما إلَّا أُعْطيتَه»، وهذا مِن عَظيمِ فَضْلِ اللهِ على نَبيِّه وعلى أُمَّتِه، وقدْ سَمَّاهما نُورَين؛ لأنَّ قِراءةَ كلِّ آيةٍ منهما تَجعَلُ لقارئِها نُورًا يَسعَى أمامَه، ويُرشِدُه ويَهدِيه إلى الطَّريقِ القَويمِ والمنهجِ المُستقيمِ؛ لِما يَحويانِه مِن المعاني الجَليلة، والتي فيها الاعترافُ بالرِّبوبيَّةِ وما فيها مِن اللُّجوءِ التَّامِّ إلى اللهِ بالدُّعاءِ العظيمِ بألفاظِهما
وفي الحديثِ: بَيانُ عِظَمِ مَكانةِ سُورةِ الفاتِحة وخَواتيمِ سُورةِ البقرة، والحثُّ على قِراءتِهما
وفيه: بَيانُ أنَّ مِن الملائكةِ رُسلًا إلى الأنبياءِ غيرَ جِبريلَ
وفيه: بَيانُ كَرامةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على ربِّه، حيث أكرَمَه بما لم يُكرِمِ الأنبياءَ الَّذين قبْلَه، فأعطاهُ هَذينِ النُّورينِ
وفيه: إثباتُ الأبوابِ للسَّماءِ، وأنَّها تُفتَحُ وتُغلَقُ، وأنَّ بعضَ الملائكةِ لا يَنزِلُ إلى الأرضِ إلَّا لمِثلِ هذه البِشارةِ