محاضرة 16

بطاقات دعوية

السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ، إِنِّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

هٰذِه المُحاضرة هِيَ السَّادِسة عَشرة من (عِلْم العقيدة)، وما زَال الحَدِيْث مُتصلًا وَالمُوقظة التَّاسِعة، وَقَدْ بينتُ في المُحاضرة السابقة عِدة أمورٍ أذكر مِنها: أَن ترك الحيات مَخافة الثأر أي ترك قتلها كبيرةٌ من الْكَبَائِر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، وذكرتُ بعض المعلومات عَنْ الحيات.

كَذَلِكَ بَيَّنْتُ أَن التشبه بغير الْمُسْلِمِينَ من أهل الْكِتَاب فِيمَا نُهينا عنه كبيرةٌ من الْكَبَائِر، وكَذَلِكَ بَيَّنْتُ أَن النُهبة كبيرةٌ من الْكَبَائِر، وذكرتُ بعض الفروق بين النُهبة والسرقة؛ كَذَلِكَ بَيَّنْتُ أَن التخبيب كبيرةٌ من الْكَبَائِر، بَيَّنْتُ أَيْضًا أَن عدم الإيفاء بالعهد كبيرةٌ من الْكَبَائِر.

واليوم إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ نبدأُ من مِثالٍ جديد ألا وَهُوَ: من ادعى ما لَيْسَ له، معنا حديثٌ رواه ابْن ماجة عَنْ أبي ذَرٍ رضي الله عنهوَهُوَ قِطعةٌ من روايةٍ في مُسْلِم، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

«مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ»، مَنْ ادَّعَى أي من أضاف إِلَىٰ نفسه كمن يدعي مثْلًا أَنَّهُ يملك ولا يملك، كمن يدعي النَّسَب ولا نَّسَب، كمن يدعي الْعِلْم ولا عِلْم، كمن يُوهم بِأَنَّهُ تلميذٌ لمُعين وليس بتلميذٍ له.

إن تَبين لك هٰذِه الأمثلة تبين أَن الأمر عظيم، ويُمكن إدراج ألاف الصور تَحْتَ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ»، ألاف الصور بلا أدنى مُبالغة ويقع الكثيرُ مِنَّا فيها يوميًا تَحْتَ هٰذَا اللَّفْظ: «مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ».

 

العَجب: أَن ما سَبق من باب الإضافات، العَجب أَنَّهُ يدخل هٰذِه الصِّيغَة تَحْتَ هٰذَا اللَّفْظ في باب الإنكار عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، كمن ادعت أَن زوجها مثْلًا لا يُنفِقُ عليها ولا يكسوها، فعِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ يدخل في هٰذَا وإن كان من باب الإنكار لأنه ادعى في حقيقة الأمر ما لَيْسَ له، ادعى السَلّب وَهٰذَا مُنكرٌ من القول وزورًا.

بل من باب السَلّب أعني الإنكار تحليل الحرام وتحريم الحلال، وتحت الإنكار عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من المُمكن أَن يندرج تحتها ألاف الْمَسَائِل الَّتِي يتورط فيها كثيرٌ من الناس.

قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، ليتبوأ من باء أي نَزل وأقَام عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، نَزل وأقَام ولكن لا يزلم مِنه المُكث بمعنى الإقامة الدائمة الَّتِي لا تنتهي، لِأَنَّ الإقامة الدائمة الَّتِي لا تنتهي هٰذَا وصف الْكَافِرِين عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

فَهٰذِه بعض المُفردات في هٰذَا الحَدِيْث؛ أَمَّا الْفِقْهيات فيه فانتبه: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ»، مَا هُنَا هِيَ الموصولة ولكن من باب ما يُسمى الموصولات المُشتركة السِتة الَّتِي تحفظونها، والموصولات سواءٌ الخاصة أو المُشتركة تُفيد العموم.

فدخل بلا أدنى شَكَّ الأمور الحِسية والأمور المعنوية، فالأمور الحِسية كالمِلك تُضيف إِلَىٰ نفسك ما لا تملكه فَهٰذِه أمور حِسية، أو تُضيف إِلَىٰ نفسك أمورًا معنوية كأنك فهمت شَيْئًا ولم تفهمه، وأظن تَحْتَ هٰذَا البند حَدِث ولا حرج عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

لذلك أقول: من نَّسَب وأضاف إِلَىٰ نفسه أي شيءٍ لَيْسَ له فهو مُتوعدٌ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ بشيئين في هٰذَا الحَدِيْث:

الشيءُ اَلْأَوَّل: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَلَيْسَ مِنَّا»، وَهٰذَا ما يُسمى بالعذاب المَعنوي عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، لأنه تضمن ذَمًا وتَضمن توبيخًا وتَضمن وعيدًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ، فَهٰذَا عذابٌ معنوي عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ وَهٰذَا في الدُّنْيَا أي لَيْسَ مِنَّا في هٰذِه الْمَسْأَلَة وإن كان مِنَّا في بقية الْمَسَائِل كما هُوَ مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ.

 

الشيءُ الْثَّانِي الخطير: أَن النَّارَ منزِلٌ له ومُقام، وَهٰذَا عذابٌ حِسي ولكنه أُخروي، وَهٰذِه مَسْأَلَةٌ كبيرة جِدًّا بَيَّنْتُ طرفًا منها في تفسيرنا لسورة (الطُور)، فتبين أَن هٰذِه الْمَسْأَلَة من الْكَبَائِر العِظام عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ فَإِن كان هٰذَا هُوَ حال من ضَاف لنفسه فما بالنا بمن ضَاف إِلَىٰ غيره؟

من ضَاف إِلَىٰ نفسه هُوَ حاله عذابٌ معنوي وعذابٌ حِسي، فأخبرنا عَنْ الَّذِي يُضيف إِلَىٰ غيره سواء أكان من باب الإيجاب أم من باب السَّلْبّ؟ من باب الإيجاب كأنك تحكم عَلَىٰ مُعينٍ أَنَّهُ كذا وكذا وكذا وكذا وليست فيه هٰذِه الْأَشْيَاء.

أو من باب السَّلْبّ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ فيدخل تَحْتَ قوله تَعَالَىٰ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا 112﴾ [النساء: 112]، الآية.

الَّذِي يُؤكد أَن هٰذِه الكبيرة عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من العظائم: أَن الله عز وجل يَقُول كما في آية (آل عِمران): ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 188﴾ [آل عمران: 188].

انظر إِلَىٰ قوله تَعَالَىٰ: ﴿أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا 188﴾ [آل عمران: 188]، إِذًاْ يُريد أَن يُضيف إِلَىٰ نفسه شَيْئًا ما، انظر مَاذَا يَقُول؟ ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ 188﴾ [آل عمران: 188]، وَهٰذَا هُوَ تحقيق وتفسير قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، لأنها مَسْأَلَةٌ كبيرة جِدًّا مُمكن أُعرج عليها في آخر الحَدِيْث عَنْ هٰذَا الحَدِيْث.

الَّذِي يُؤكد هٰذَا الْمَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم فِيمَا رواه أحمد عَنْ يَعلى بْنَ مُرة، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا ظلمًا»، انظر إِلَىٰ الإضافة أضاف إِلَىٰ نفسه: «جاء يَوْمَ القِيَامَةِ يحمل تُرابها إِلَىٰ المَحشر».

لِأَنَّ السرقة في حقيقة الأمر إن كانت هٰذِه سرقة، أو نُهبة أي أخذها بالقوة جَهرًا فَمِمَّا لَا شَكَّ فيه أضاف إِلَىٰ نفسه ما لَيْسَ له، فدخل تَحْتَ هٰذَا النَّصّ قولًا واحدً؛ لذلك قُلْت: هٰذَا النَّصّ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ يندرج تحته ألاف الْمَسَائِل في باب الإيجاب وألاف الْمَسَائِل في باب السَّلْبّ.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم فِيمَا رواه أبو داود عَنْ أنسٍ رضي الله عنهقَالَ: قَالَ: «مَنْ ادَّعَى إِلَىٰ غَيْر أبيه»، فَهٰذِه إضافة وسَلبٌ في نفس الوقت، يَعْنِي جَمع بين سوءتين أضاف نفسه إِلَىٰ غَيْر أبيه ونَزع نفسه من أبيه، فدخل باب الإيجاب وباب الإنكار أو باب السَّلْبّ: «أو انتَمَى إِلَىٰ غَيْر مَواليه، فَعَلَيْهِ لعنَةُ اللهِ المُتتابعةُ إِلَىٰ يوم القِيَامَةِ».

وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا سبق أَن هٰذَا اللَّعْن عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ هُوَ اللَّعْن العام، أي أَنَّهُ مُتوعد باللَّعْن ولكن لَيْسَ ملعونًا عَينًا، بدليل أَن من ادعى مثل هٰذِه الأمور كثيرٌ منهم تاب إِلَىٰ الله D، واللَّعْن كما سبق طَردٌ من رحمة الله، وَهٰذَا هُوَ اللَّعْن الخاص ومن طُرِدَ من رحمة الله لا يُمكن أَن يعود إليه.

من هٰذَا أو من الصِيغ الَّتِي تندرج تَحْتَ هٰذَا اللَّفْظ: ما رواه أحمد عَنْ ابْن عُمَر رضي الله عنهما قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنّ مِنْ أفرَى الفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُل عينَيْه في المَنام مالم تَرَ»، إِنّ مِنْ أفرَى الفِرَى أي من أعظمها، تَقُولُ: رأيت كذا وكذا وأنت لم تَرَ شَيْئًا أليست هٰذِه إضافة؟ هٰذِه إضافة ورب الكعبة؟ عُدْ تَحْتَ هٰذَا البَند ألاف الْمَسَائِل الَّتِي لا يُمكن أَن تُحصر بأي وجهٍ من الوجوه.

 ففي هٰذِه النصوص تبين أَن من ادعى ما لَيْسَ له عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ فقد ارتكب كبيرة من الْكَبَائِر؛ لا يُمكن أَن تكون صغيرةً للوعيد، ولا يُمكن أَن تكون كبيرةً لهٰذِه النصوص، فَسَلِم مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وبَطُلت المذاهب الأُخرى الْخَوَارِج مع الْمُعْتَزِلَة، بَطُل مذهب الوعيدية، بَطُل مذهب المُرجئة، بَطُل مذهب الشِيعة ولم يبقى سالمًا إِلَّا مذهب أَهْلِ السُّنَّةِ.

في الحقيقة هُنَا وقفة تحتاجُ إِلَىٰ تأملٍ شديد قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، تُوجد بعض الْكَبَائِر لا تشملها الشفاعة ابتداءً؛ لذلك انظر إِلَىٰ قوله تَعَالَىٰ:﴿أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ 188﴾ [آل عمران: 188] لازم، ستقول لي: التوبة؟ هٰذَا كارثة في الفَهم.

لذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار»، مُجرد الكَذِب سببٌ للإقامة الدائمة، فَهٰذَا من باب السَّبَب والمُسبب لا من أحكام التكليف في شيء.

لذلك عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من وقع في مِثل هٰذِه الأمور لا يدخل الجَنَّة ابتداءً، طيب هتشمله الشفاعة؟ قُلْت: كُل لفظٍ فيه: «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار»، لا تشمله الشفاعة ابتداءً، وأخص بالذِّكْر لِأَنَّ الله احتجر التوبة عَلَىٰ من قتل مُؤمنًا مُتعمدًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ بغير حقٍ؛ ولكن مِمَّا لَا شَكَّ فيه من المُمكن أَن تناله الشفاعة أثناء العذاب فلا يستوفي جميع العذاب، ولكن في النهاية سيخرج قولًا واحدًا من النَّار لأنه من أهل التَّوْحِيد.

مَسْأَلَةٌ أخرى أو مِثَالٌ آخر: وَهُوَ في الحقيقة الأخير في هٰذِه المُوقظة ولم أُطل في الحقيقة، يَعْنِي أَنا تركت أكثر من عشرين مِثَال من المُمكن أَن يُدرجوا هُنَا، هٰذَا الْمِثَال عنوانه: "إجلال الكبير ورحمة الصغير".

الحَدِيْث رواه أحمد رحمه الله عَنْ عُبادة بْنَ الصامت رضي الله عنهقَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقه»، حديثٌ في غاي الأهمية.

«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا»، يَعْنِي يُوقر ويُعظم ويهابه وأعي ما أقول جيدًا: ويهابه، فانتبه الهيبة شيءٌ والخشية والمخافة شيءٌ آخر، أنا أقول هٰذَا الْكَلَام لِمَ؟ لِأَنَّ بعض الناس زَعم أَنَّهُ لا يَجُوز أَن تَهّب أحدًا؟ هٰذَا باطل.

لذلك ابْن عَبَّاس رضي الله عنهوَأَرْضَاهُ كان يَقُول عَنْ عُمَر: "له هيبة وأهابه"، أيُعقل أَن حَبر الأمر لا يدري واختلط عَلَيْهِ الأمر أَن الهَيبة هِيَ الخشية أو الخوف؟ لا والله، فالفاصل بينهما كبير، لِمَ؟ لِأَنَّ الخشية والخوف لا يصلحان إِلَّا لله عز وجل.

أَّما قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ 3﴾ [المائدة: 3]، كما في المائدة وَقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 175﴾ [آل عمران: 175]، آل عِمران.

طبعًا في الحقيقة الآيات يكون فيها نِكات عِلْمية كبيرة جِدًّا، وأخوف ما أخاف أَن تفوت؛ لذلك سامحونا نخرج قليلًا: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 175﴾ [آل عمران: 175]،  ما هٰذَا الْكَلَام الغريب ده؟

أنتم تعلمون أَن الشرط يسبق المشروط إن جئتني أطعمتك، إن جئتني أكرمتك، ما هِيَ هٰذِه الَقِصَّة؟ ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 175﴾ [آل عمران: 175]، يَعْنِي "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ"، فهُنا أُخر الشرط وقُدِم جواب الشرط أمرٌ في غاية الخطورة.

أتدري إن قُدِم لا يُسمى جوابًا للشرط؛ ولكن يكون دليلٌ عَلَىٰ الشرط، يَعْنِي إن رأيت أحدًا لا يخاف أعداء الله ويخاف الله فاشهد له بالإيمان، أظن مَسْأَلَة في غاية الأهمية.

فِقْهيات هٰذَا الحَدِيْث كثيرة وكبيرة: عدم توقير الكبير من أعظم الْكَبَائِر؛ لذلك جاء حديثٌ بلفظ في غاية القوة، رواه أبو داود عَنْ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ».

«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»، تصوروا هٰذَا الحَد أَن الله جَعل إجلاله له شرطٌ أَن تُجلَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، أَن تُجل الكبير، أَن ترحم الصغير، أَن تعرف لأهل الْعِلْم أنهم لهم حق عِندك لَا بُدَّ وأن يُؤدى إِلَىٰ غَيْر ذَلِكَ من الأمور.

كَذَلِكَ عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ عدم رحمة الصغير من الْكَبَائِر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَا يَرْحَمُ الناس لَا يُرْحَمُه الله عز وجل»، كما رواه الشَّيْخان عَنْ جرير وغيرهما.

وَنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ هٰذَا الحَدِيْث أو ما كان في مَعْنَاهُ في سِياقٍ في غاية الخطورة، أَن أحد الصَّحَابَة رأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُقبِل الحَسن فَقَالَ: "أتقبون أبنائكم والله لي عشرة ما قبلت واحدٌ منهم"، فَقَالَ: «مالي ورجلٌ قَدْ نَزع الله من قلبه الرحمة».

انظر إِلَىٰ لفظ نَزع يدل عَلَىٰ أَن تقبيل الأبناء من الرحمة، وعدم تقبيلهم عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ لَونٌ من ألوان الْكَبَائِر نَسأَلُ اللهَ السَّلامَة والعَافِيَةَ، وأضعف الناس من لا يرحم الناس هُم الصِغار مِمَّا لَا شَكَّ ذكورًا كانوا أَمَّا إناثًا.

لذلك أقول: وجه الكبيرة في هٰذَا أَن الله عز وجل عَلق رحمته برحمة الناس وجودًا وعدمًا، كما أَنَّهُ عَلق توقير الكبير بإجلاله وجودًا وعدمًا، وَأَمَّا العالم لا تسأل عَنْ ذَلِكَ فإنها مَسْأَلَةٌ في غاية الخطورة فمن ترك حقه فوالله فقد آذى وليًا من أولياء الله D.

لِمَ؟ ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ 69﴾ [النساء: 69]، من هُم الصِديقون الَّذِينَ تلوا الْأَنْبِيَاء وتقدموا الشُّهَدَاءِ؟ هم العُلَمَاء العاملون قولًا واحدًا.

لذلك كان أبو بكر صِديقًا من جهتين:

µصديقًا من جِهَةِ أَنَّهُ صَدق النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه أَوَّل من صَدق النَّبِيّ من اَلرِّجَال.

µوَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الخطيرة أنهم عالمٌ عامل.

لذلك يَقُول ابْن تَيْمِيَّة رحمه الله: "لم يُذكر عَنْ أبي بكرٍ الصديق أَنَّهُ خالف سُّنَّةً".

من ترك حق العالم فقد آذى وليًا من أولياء الله عز وجل ، لأنهم هم الصديقون ورثة الْأَنْبِيَاء ومحل حفاوة الْمَلَائِكَة، ومحل الاستغفار من الحَجر والشجر والحوت والنمل ومن كُل شيءٍ، فكيف إِذًاْ يُقصر في حقهم؟

أضف إِلَىٰ هٰذَا أَن سَلب حقه تضييعٌ لحُرمة الْعِلْم وتضييعٌ لحُرمة الدِّين، وَهٰذَا من باب اللزوم قولًا واحدًا؛ لذلك يَقُول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تَعَالَىٰ قَالَ: مَنْ عَاّدَىَ لي وليًّا فقدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ»،  انظر كيف تصدى الله عز وجل لم يُعادي أهل الْعِلْم؟ أو يسعى في تقليب الظالمين عليهم؟ أو يسعى إِلَىٰ تشويه صورتهم؟

 

إن كان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أقِيلُوا ذَوِي الهَيّئاتِ عَثَراتِهم»، فما بالك إن كان من أهل الْعِلْم؟ فهو منزلته أعلى من منزلة الأعيان ذَوِي الهَيّئاتِ، فكيف يتتبع الناس عورات أهل الْعِلْم ويفضحونهم؟ ومُعظمها عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ من باب الباطل والافتراء ولا يستطيع أحدٌ أَن يُقيم عليها حُجة كما مَر في سالف الأزمان؟ إِلَىٰ هُنَا تنتهي هٰذِه المُوقظة وكان لَا بُدَّ من إطالتها بعض الشيء لِأَنَّ الموضوع في غاية الأهمية.

 معنا المُوقظة العَاشِرة: معركة: "لا تَّكْفِير إِلَّا بعد قيام الحُجة".

 

 

الموقظة العاشرة: لا تَّكْفِير إِلَّا بعد قيام الحُجة

 قطعًا أتكلم عَنْ الْمُسْلِمِينَ لا تأتي وتُدخل لي الْكُفَّار وتقول: يَعْنِي لا نُكفرهم إِلَّا لما نُقيم الحُجة؟ يا رجل، هُم أنفسهم يقولون: نحن لسنا من الْمُسْلِمِينَ فهم ليسوا محلًا للبحث معنا، محل البحث هُوَ تَّكْفِير الْمُسْلِم لمُجرد أَن قَالَ كُفرًا أو فَعل كُفر.

نُريد أن نقف هُنَا ونتكلم في هٰذِه الْمَسْأَلَة وإن كُنت قَدْ وضحتها بالتفصيل في التسعينيات فَإِن شئت فَعُد إِلَيْهَا، كثيرٌ من الناس يَقُولون أقوالًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ هِيَ الْكُفْر بعينه، ويفعلون أفعالًا هِيَ الْكُفْر بعينه عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

ولكن لا ندري أَهَمّ يعلمون الحَق وأعرضوا عنه؟ لا ندري أَهَمّ يعلمون الحَق وعاندوا في اتباعه؟ لا ندري أَهَمّ لا يعلمون الحَق وهم من أهل الْجَهْل؟ إن عَلِمت هٰذِه الكلمات البسيطة فتعين قيام الحُجة، حَتَّىٰ تتعرف عَلَىٰ هٰذِه الأسئلة السابقة.

العَجب أَن عِلْم أصول الْفِقْه فيه باب اسمه "شروط التكليف"، شروط التكلَيف في الفاعل وشروط التكليف في الْفِعْل، لا يعتبرونها سُبْحَانَ رَبِّي! كيف وكُل شرطٍ من هٰذِه الشروط قام عَلَيْهِ الدليل من الْكِتَاب وَالسُّنَّة بل بعضها فيه الإجماع قولًا واحدًا ولا يتخلف منها إِلَّا واحدًا؟ سُبْحَانَك يا رَبْ!

ثبوت العقل أيُعقل يا قوم أَن رَجُلًا لا عقل له قَالَ كُفْرًا أو فِعْل كُفرًا هٰذَا يُحاسب ويُعذب ويُحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كافر؟ كالمجنون إن قُلْت: أَنَّهُ غَيْر مُكلف، قُلْت إِذًاْ أثبت صِفَة العقل لَا بُدَّ من صِفَة العقل، السكران قطعًا في غَيْر الأرش عَلَىٰ تفصيلٍ معروف في بابه؛ بل والغضبان، وأعني بالغضب الإغلاق، وأعني بالإغلاق أَنَّهُ لا يدري أَنَّهُ قَالَ.

لذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»، تَقُولُ للرجل: أنت طلقت؟ يَقُول: والله ما فاكر حاجة ولا قُلْت حاجة هٰذَا هُوَ الإغلاق، فَإِن كان العقل غَيْر موجود أصلًا وأخبرونا موسى عَلَىٰ نَبِيِّنَا وعليه الصلاة والسلام كليم الله من أُولي العَزم من الرُّسُل عندما أخبره الله بأن قومه عبدوا العَجِل مَاذَا فعل؟ كانت الألواح في يده الألواح الَّتِي كُتبت فيها التَّوْرَاةِ أي الْقُرْآن، فيُسمى قرآنًا ويُسمى زبورًا بنص الْكِتَاب وَالسُّنَّة.

نحن نسأل مَاذَا فِعْل في هٰذِه الألواح؟ ألقاها في الْأَرْض، في رواية أحمد: «فانكسرت»، انظروا إِلَىٰ قوة يد موسى، هل كان يعقل ما يفعل؟ كان مُغلقًا تمامًا آآخذه الله؟ أعاتبه الله؟ والله لم يثبت نصا في ذَلِكَ البتة، وعدم الذِّكْر دليل العدم هٰذِه مَسْأَلَة خطيرة، ده رَمى الْقُرْآن في الْأَرْض.

ناهيك ولا أُريد أَن أُطيل عليكم: ثبوت الْعِلْم فلا يكون قائل الْكُفْر أو فاعل الْكُفْر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ جاهلًا أو مُقلِدًا، لِأَنَّ المُقلِد جاهل أو مُتأولًا لَا بُدَّ وأن يثبت الْعِلْم، ثبوت التذكر فلا يكون ناسيًا ولا يكن مُخطئًا ولا يكون ذاهلًا.

ثبوت القُدرة وضِدها العَجز لا يكون عاجزًا، لأنه كما أُمر بأن يفعل أُمر بأن يترك، فَالَّذِي لم يفعله لعَجزٍ، وَالَّذِي أُمر بتركه قَدْ يُدفع إِلَىٰ فِعْله كما سيأتي في ثبوت الاختيار أَن يكون مُختارًا لما قَالَه ولما فعله، إِذًاْ ضِدها الإكراه.

بل ثبوت اَلنِّيَّة والقَصد وَهٰذِه مَسَائِل كبيرة جِدًّا لا أُريد أَن أدخل فيها بالتفصيل؛ ولكن أنا أذكر هٰذِه الأمور حَتَّىٰ تعلم أَن كُل هٰذِه من المَجاهيل عِندك، ما معنى من المَجاهيل؟ الَّذِي قَالَ الْكُفْر أو فِعْل الْكُفْر لا تدري هٰذِه الشروط متوفرة فيه أم لا؟

إِذًاْ قيام الحُجة لتُبين أَن هٰذِه الأقوال أَن هٰذِه الأفعال تُخالف النصوص الشَّرْعِيَّة، لإثبات كُل ما سبق أمرٌ يطول جِدًّا، يَعْنِي في حقيقة الأمر قيام الحُجة لَيْسَ مقصورًا عَلَىٰ باب الْعِلْم يَعْنِي قيام الحُجة لنفي الْعِلْم، وَهٰذَا ما يُسمى بالعُذر بالجهل.

 

بل أَن أختار واحدة وَفَقَطْ وَهِيَ مشهورة جِدًّا بين الناس ألا وَهِيَ أَن إقامة الحُجة بقصد إثبات الْجَهْل، وعليه فَإِن إقامة الحُجة لإثبات كُل ما سبق، وأختار واحدة وَفَقَطْ وَهِيَ: إزالة الْجَهْل أولًا فتَبين أَن إقامة الحُجة من باب الْعِلْم أي أُعلمه وأنفي عنه النِسيان، وأنفي عنه الخطأ، وأنفي عنه الذهول.

وأنتم تعلمون عِلْم اليقين: أَن الْعِلْم سابقٌ للقول والعمل: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ 19﴾ [محمد: 19]، هٰذَا الْعِلْم لذلك البُخَارِيّ رحمه الله  بَوب: "باب الْعِلْمُ سابقٌ للقول والعمل"؛ ثُمَّ أورد: «مَن عَمِلَ عَملًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌ»، «مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هٰذَا ما لَيْسَ مِنّه فَهُوَ رَدٌ».

فتعين أَنَّهُ بعد إزالة الْجَهْل ما الَّذِي يحصل؟ ينكشف القابل، أهو قابلٌ للهُدى والْإِيمَان أم لا؟ وعلامة القبول لَيْسَت مُجرد التسليم المُتضمن للرِضى لا، لَا بُدَّ من العمل وحِسابه عَلَىٰ الدَيان سبحانه وتعالىلأنه قَدْ يعمل نِفاقًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ درئًا للعذاب في الدُّنْيَا.

مِمَّا لَا شَكَّ فيه اقتطفنا الْعِلْم الَّذِي ضِده الْجَهْل، لإثبات الْعِلْم ودفع الْجَهْل، والأدلة عَلَيْهِ من الْكِتَاب وَالسُّنَّة بالعشرات بل بالمئات، أذكر بعضها وأُعلق عَلَىٰ كُل نصٍ بِمَا تيسر.

أولها: (آية الإسراء) قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 15﴾ [الإسراء: 15]، ما هٰذَا أمر في غاية الخطورة؟ سبب العذاب موجود وما هُوَ؟ المعصية مِمَّا لَا شَكَّ فيه، وما هُوَ؟ الْكُفْر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ؛ أَمَّا شرط العذاب هٰذِه مَسْأَلَة ثانية.

يبقى نحن عندنا شيئان:

اَلْأَوَّل: ما يُسمى بسبب العذاب.

وَالآَخَر: يُسمى بشرط العذاب.

فسبب العذاب هُوَ المعصية هُوَ قول الْكُفْر وَهُوَ فِعْل الْكُفْر، فربنا سبحانه وتعالىيَقُول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ 15﴾ [الإسراء: 15]، طيب لِمَاذَا سيُعذبهم؟ عشان أتوا بسبب العذاب: ﴿حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 15﴾ [الإسراء: 15]، إِذًاْ بعث الرسول شرط وقوع العذاب.

وَهٰذِه هِيَ الجُزئية الَّتِي إخواننا الأفاضل الَّذِينَ لا يعذرون بالجهل لا ينتبهون لها ولا يُفرقون بين سبب العذاب وبين شرط العذاب، فبمُجرد أَن يقع سبب العذاب جعلوه شرطًا للعذاب، وَهٰذَا مُنكرٌ من القول وزورًا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ.

بل يُوجد هُنَا مَسَائِل رهيبة لِأَنَّ الله يَقُول: ﴿وَمَا 15﴾ [الإسراء: 15]، نَفيٌ لأقل المباني ولو وقفت عَلَىٰ  (مَا) ما انتهيت، لِأَنَّ مَا نفي، لا نفي، لَنْ نفي، فيه فرق؟ قطعًا انظر مَا امتداد أي لا يُمكن أَن يُعذِب لوجود وقوع سبب العذاب.

ولكن لو قُلْنَا: لَنْ إِذًاْ هِيَ مُقيدة، انظر لَنْ مقفولة النون مقفولة يَعْنِي مُقيدة يَعْنِي مُمكن ما نعذبوش دلوقت؛ لذلك لا تجد لَنْ في هٰذَا الباب: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ 15﴾ [الإسراء: 15]، يا تُرى المُراد ذات الرسول؟ أم المُراد الرِّسَالَة الَّتِي جاء بها الرسول؟

المُراد الرِّسَالَة الَّتِي جاء بها الرسول قولًا واحدًا، فيستحيل أَن يكون المُراد نفس الرسول؛ وَإِلَّا لو كان المُراد نفس الرسول ذات الرسول إِذًاْ لما مات انقطعت الرِّسَالَة، وأصبح للناس عَلَىٰ الله حُجة يوم القيامة، فالقضية في الرِّسَالَة.

وقطعًا لو تكلمنا عَنْ الرِّسَالَة لَنْ ننتهي بمعنى الرِّسَالَة لَا بُدَّ وأن تصل، وأعني بالرِّسَالَة يَعْنِي المعلومة الَّتِي جاء هٰذَا العاصب ضِدها لَا بُدَّ وأن تصله، طيب فمن المُمكن أَن تصل من طريق صَّحِيْح، ومن المُمكن أَن تصل إليه من طريق ضعيف؟ لا يا سيدي لَا بُدَّ وأن تصل من طريق صَّحِيْح، طيب وصلت من طريق صَّحِيْح لَا بُدَّ وأن يفهمها.

طيب ما الفهم مُمكن فهمها عَلَىٰ مُراده ومن المُمكن فهمها عَلَىٰ مُراد الله ورسوله؟ لا، لَا بُدَّ وأَن يفهمها عَلَىٰ مُراد الله ورسوله وليست مُراده، لِأَنَّ مُراده قَدْ يُخالف مُراد الله ومُراد رسوله.

طيب لو فَهمها عَلَىٰ مُراده؟ قَدْ يكون قادرًا عَلَىٰ الْفِعْل وَقَدْ يكون غَيْر قادر، قَدْ تتوفر فيه شرط من هٰذِه الشروط يدخل تَحْتَ باب الخطأ، وتحت باب النِسيان، تَحْتَ باب التأويل، وتحت باب الإكراه وغير ذَلِكَ من الأمور؛ إِذًاْ في حقيقة الأمر الْمَسْأَلَة في غاية الدِقة ولكن والله في غاية اليُسر لمن أراد أَن يبحث عَنْ الحق.

أنا لا أُريد أَن أُطيل الْكَلَام عَنْ هٰذِه الآية أكثر من ذَلِكَ؛ ولكن أذكر بعض الآيات الَّتِي تُبين صِدق ما نَقُول قَالَ تَعَالَىٰ كما في آية (النِساء): ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ 165﴾ [النساء: 165]، أي أَن الله أرسل رسلًا وظيفتهم مُبشرون من قَالُوا: سمعنا وأطعنا، مُنذرين لمن قَالُوا: سمعنا وعصينا.

لو وقفت عَلَىٰ كَلِمَة سمعنا إِذًاْ سمعوا الخبر الصَّحِيْح وفهموه عَلَىٰ مُراد الله وعَلَىٰ مُراد رسوله، ثُمَّ قَالَ: أطعنا أي عملنا بِمَا سَمعنا، الناحية الأخرى: عصينا أي لم ولن نَعمل، إِذًاْ العِصيان المُعتبر هُوَ بعد وصول الخبر عَلَىٰ الوصف السابق كما بيناه.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ 165﴾ [النساء: 165]، إِذًاْ إن لم يصله الخبر أصبح له حُجة عِند الله أم لا؟ له حُجة عَلَىٰ الله، يَعْنِي لو سُئل يوم القيامة: لِمَ فَعلت ذَلِكَ؟ قَالَ: لم أعلم هٰذَا النَّصّ، ولم أتمكن منه كان الجواب أَنَّهُ له حُجة، وَهٰذَا مقامٌ آخر مقام الاختبار كما سيأتي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ.

أنا أُؤكد هٰذِه القضية الكبيرة جِدًّا: أَن الله عز وجل يَقُول كما في سورة (المُلِك): ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا 8﴾ [الملك: 8]، كُل ما ترمي شوي في النَّار خَزنة النَّار يسألوهم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ 8﴾ [الملك: 8]؟

انتبه لكلمة: نَذِيرٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي رَسُول يحمل رسالة وفيها نَذارة لكم؛ ومعنى فيها نَذارة إِذًاْ هم سمعوا الخبر، إِذًاْ هم فَهموا الخبر، إِذًاْ هم لهم قُدرة عَلَىٰ الْفِعْل وامتنعوا، مَاذَا كان جوابهم؟ ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا 9﴾ [الملك: 9]، فجاء التكذيب.

وَالَّذِي لم يصله الخبر لا يُسمى كذابًا؛ بل من لم يفهم الخبر لا يُسمى كذابًا؛ بل من تأول الخبر تأويلًا سائغًا لا يُسمى كذابًا؛ لذلك: ﴿قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ 9﴾ [الملك: 9]، انظروا إِلَىٰ الإنكار بعد أَن عاينوا، إنكار بعد أَن عاينوا الحقيقة.

مِثَالٌ آخر: أَيْضًا في سورة (تبارك المُلِك) قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ 11﴾ [الملك: 11]، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ إِذًاْ هُم ارتكبوا هٰذَا الذنب عَنْ عِلْمٍ أم عَنْ جهل؟ فَإِن كان عَنْ عِلْمٍ سُمي ذنبًا، إن كان عَنْ جهلٍ يستحيل أَن يُسمى ذنبًا.

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا 286﴾ [البقرة: 286]، قَالَ: «قَدْ فَعلتُ»، فَإِن كان اللهُ عز وجل لم يُؤاخذهم بالنِسيان والنِسيان أَن المعلوم عِندك ولكن لم تتذكرها، بدليل الناس يَقُول: تَذكرتُ، تَذكرتُ مَاذَا؟ المعلومة الَّتِي مخزونة عِندك، فما بالنا بمن لا معلومة له أصلًا؟ أليس هٰذَا أَّوْلى بالحُكم؟ بلى.

وَقَالَ تَعَالَىٰ كما في (الأنعام): ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا 130﴾ [الأنعام: 130]، أي شهدوا أَن فيه رُسل جاءت وأن هٰذِه الرُّسُل بلغت الوحي الَّذِي أُرسل إليهم، وبهذا وَقَدْ فَهموه وبهذا حصلت النَذارة وَقَدْ بينوا لهم أَن هُنَاكْ يومًا للحِساب.

ثُمَّ بَرروا فَقَالُوا: ﴿شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا 130﴾ [الأنعام: 130]، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا 130﴾ [الأنعام: 130]، أي أَن الحياة الدُّنْيَا بما فيها من شهوات لِأَنَّ المَحل لَيْسَ مَحل شُبهات قَدْ غَرتهم: ﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ 130﴾ [الأنعام: 30].

فلا يُمكن أَن يُطلق عَلَىٰ أحدٍ لفظ الْكُفْر يَعْنِي عَينًا إِلَّا عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَىٰ إِلَّا بعد التأكد من أَنَّهُ يعلم عَلَىٰ الوصف الَّذِي ذكرته آنفًا، والكلام فيه قُلْت: يطول جِدًّا، ولكن أنا أجتهد أَن أختصر لكم اختصارًا.

وَقَالَ تَعَالَىٰ كما في (الزُخرف): ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ 76﴾ [الزخرف: 76]، احفظ هٰذِه الْكَلِمَة الظَالمُ لا يُسمى ظالمًا أبدًا إِلَّا إذا عَرّف ما جاء بِهِ الرسول أو تَمكن من معرفته ثُمَّ خالفه.

مرةً ثانية: الظَالمُ هُوَ من عَرّف ما جاء بِهِ الرسول؛ إِذًاْ الَّذِي خالف الرسول وَهُوَ لا يدري ما جاء بِهِ الرسول لا يكون من الظالمين، كيف يكون من الظالمين؟ أو تَمكن من معرفته بوجهٍ من الوجوه وقَصر؟ فَهٰذِه مسألةٌ أخرى هٰذَا يُسمى ظالمًا؛ أَمَّا إن انقطعت عنه السُبل ولا يدري فكيف يُسمى ظالمًا؟

لذلك أنا أُريد أَن تنتهبوا إِلَىٰ مَدلول اللَّفْظ الشرعي، أنت تَقُول: فُلَان ظَلمني ما معنى هٰذَا؟ يَعْنِي يعلم أَنَّهُ أخذ حقك، أَنَّهُ تعرض لك بسوء وَهُوَ يعلم؛ أَمَّا إن كان لا يعلم لا يُسمى ظالمًا.

أَمَّا آية (طه): ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ 134﴾ [طه: 134]، انظر المولى عز وجل مَاذَا يَقُول؟ يَعْنِي لو عذبناهم مِنْ قَبْل أَن نبعث إليهم رَسُولًا ويُبلغوا هٰذِه النَذارة: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا 134﴾ [طه: 134].

أظن الْمَسْأَلَة انتهت؟ لا تكليف قبل الْعِلْم بِالنَّصِّ، لا تكليف قبل معرفة صِحة النَّصّ، لا تكليف البتة قبل فهم النَّصّ عَلَىٰ مُراد الله وعَلَىٰ مُراد رسوله، لا تكليف البتة إِلَّا إذا انتفت الموانع من هٰذَا المُعين، وكما قُلْت: هٰذِه مَسْأَلَة في غاية الخطورة.

انظر مَاذَا يَقُول ابْن تَيْمِيَّة في (الجواب الصَّحِيْح)؟ ابْن تَيْمِيَّة المُفترى عَلَيْهِ وَهُوَ من أبعد خلق الله عَنْ تكفير الْمُسْلِمِينَ، وأَّنْ من يرموه بِالْكُفْر هم من أكثر خلق الله تكفيرًا للْمُسْلِمِينَ، وأَخصُ بِالذِّكْر الأَشَاعِرَةِ، الأَشَاعِرَةِ يُكفرِون جميع الْمُسْلِمِينَ.

واحد يَقُول لي: ولكن هم لم يقولوا ذَلِكَ، احفظ هٰذِه الْكَلِمَة عني مع أني أدري أَن ابْن قُدامة قَدْ قالها من مئات السِنين؛ ولكن اسمعها مني: التقية وصف الشِيعة؟ لا والله، ده وصف الزنادقة ووصف الشِيعة ووصف الأَشَاعِرَةِ، فهم يُكفرون قولًا عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ، وعوام الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ في كلامنا عَنْ الأَشَاعِرَةِ في كلمات وكُلها مُسجلة، وكُلها أظن أُذيعت وانتهت يَعْنِي.

يَقُول ابْن تَيْمِيَّة: "فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا"، انتبه ابْن تَيْمِيَّة دخلنا في الْكُفَّار وليس في الْمُسْلِمِينَ، كيف أيرفع الله عز وجل عَنْ الْكُفَّار الإصر والأغلال ويضعه عَلَىٰ الْمُسْلِمِينَ؟ يا ناس اتقوا الله!

انظر: "فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الرَّسُولِ كَانُوا قَدِ اكْتَسَبُوا الْأَعْمَالَ الَّتِي تُوجِبُ الْمَقْتَ وَالذَّمَّ وَهِيَ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ؛ وَلَكِنْ شَرْطُ الْعَذَابِ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ".

إِذًاْ ابْن تَيْمِيَّة رحمه الله فَرّقْ بين سبب العذاب وبين شرط العذاب، فسبب العذاب المعصية هل كافية لإلحاق العذاب بهم؟ لا ورب الكعبة؛ بل لَا بُدَّ من قيام الحُجة عليهم بنص هٰذِه الآيات ومئات الأَحَادِيْثِ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.

Åفتبين من هٰذِه الْأَدِلَّة وغيرها: أَن إقامة الحُجة من صُلب دين رَبِّ الْعَالَمِين وَذَلِكَ للأمور الآتية:

أولًا: لإزالة الْجَهْل.

ثانيًا: لإجراء الْأَحْكَام عليهم في الدُّنْيَا.

ثالثًا: فَإِن مات عَلَى ذَلِكَ لَحقه العذاب في الْآخِرَة، عَلَى تفصيلٍ معروفٍ في مكانه.

قُلْت: وعَلَىٰ ما سبق أئمة الهُدى قاطبةً، وَهٰذِه الجُزئية هِيَ الَّتِي نبدأ بها إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَىٰ المُحاضرة القادمة.

أكتفي بهذا القَدر وَصَلَّىٰ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَىٰ نبينا مُحَمَّد، وجزاكم اللهُ خيرًا والسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ فيه أسئلة؟.

الطالب: أحسن الله إليكم شَّيْخنا ونفع بكم وزادكم من فَضله ...؟

الشَّيْخ: أنا لم أقرأه، جزاكم اللهُ خير وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاتهْ.