مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه28
مسند احمد
حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان يعني التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أهل النار الذين (1) هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار، فيدخل عليهم الشفعاء، فيأخذ الرجل الضبارة (2) فيبثهم " أو قال: " فيبثون (3) على نهر الحيا " أو قال: " الحيوان "، أو قال: " الحياة "، أو قال: " نهر الجنة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ترون الشجرة تكون خضراء، ثم تكون صفراء؟ " أو قال: " تكون صفراء، ثم تكون خضراء " قال: فقال بعضهم: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية (4)
أمورُ الآخِرَةِ مِنَ الغيبِيَّاتِ، وقد أخبَرَنا ببعضِها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بما أعلمَه اللهُ سبْحانه، ومِن رَحمةِ اللهِ وفَضْلِه على المؤْمنينَ أنَّه يَتجاوزُ عمَّنْ يَشاءُ منهم فلا يُعذِّبُهم، ومَن حَقَّ عليه العذابُ منهم فإنَّه يُعذِّبُهم على قَدْرِ ذُنوبِهم، ثم يُدركُهم برَحمَتِه ويُدخِلُهم الجنَّةَ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضي اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أمَّا أهلُ النَّارِ الَّذين هم أهْلُها فلا يَموتون فيها ولا يَحْيَوْن"، وهم الكفَّارُ الَّذين هم أهْلُ النَّارِ والمستحِقُّون للخُلودِ، لا يَموتون فيها ولا يَحيَون حياةً يَنتَفِعون بها ويَستريحون معَها؛ كما قال اللهُ تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13]، وهذا جارٍ على مَذهَبِ أهلِ الحقِّ أنَّ نَعيمَ أهلِ الجنَّةِ دائمٌ، وأنَّ عذابَ أهلِ الخُلودِ في النَّارِ دائمٌ، "ولكنْ ناسٌ أصابَتْهم نارٌ بذُنوبِهم أو بخَطاياهم، فأَماتَتْهم إماتةً حتَّى إذا كانوا فَحمًا أُذِن لهم في الشَّفاعةِ فجِيءَ بهم"، وهذا مَعناه: أنَّ المذنِبين مِن المؤمِنين يُميتُهم اللهُ تعالى إماتةً بعدَ أنْ يُعَذَّبوا المدَّةَ الَّتي أرادَها اللهُ تعالى، وهذه الإماتَةُ إماتةٌ حقيقيَّةٌ، يَذهَبُ معها الإحساسُ، ويكونُ عذابُهم على قدْرِ ذُنوبِهم، ثمَّ يُميتُهم، ثمَّ يكونون مَحبوسين في النَّارِ مِن غيرِ إحساسٍ المدَّةَ الَّتي قدَّرها اللهُ تعالى، ثمَّ يَخرُجون مِن النَّارِ مَوْتى، قد صاروا فَحمًا، فيَخرُجون مِن النَّارِ "ضَبائرَ ضَبائرَ"، أي: جَماعاتٍ متفرِّقةً كما تُحمَلُ الأمتِعةُ، "فبُثُّوا على أنهارِ الجنَّةِ"، أي: ووُزِّعوا عليها، "فقيل: يا أهلَ الجنَّةِ، أَفيضوا عليهم"، أي: صُبُّوا عليهم مِن ماءِ الجنَّةِ، "فيَنبُتون نباتَ الحِبَّةِ تكونُ في حَميلِ السَّيلِ"؛ وهو ما يَحمِلُه السَّيلُ مِن تُربةٍ ضَعيفةٍ، فيَنبُتُ نَباتُها في سُرعةٍ مع ضَعفٍ، فتَخرُجُ هذه النَّباتاتُ لضَعفِها صفراءَ مُلتوِيَةً، ثمَّ تَشتدُّ قوَّتُهم بعد ذلك ويَصيرون إلى مَنازلِهم في الجنَّةِ، وتَكمُلُ أحوالُهم، ويكونُ خُروجُهم مِن النَّارِ بعد أن يَقبَلَ اللهُ فيهم شفاعَةَ نبيِّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والمؤمنين.
قال أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضي اللهُ عنه: "فقال رجلٌ مِن القَومِ: كأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد كان في الباديَةِ"، أي: كأنَّه كان يَعيشُ في الصَّحراءِ ويرَى سَيلَ الأمطارِ وما يَحمِلُه وما يُنتِجُه؛ لدِقَّةِ وَصْفِه لكيفيَّةِ الإنباتِ للزُّروعِ المسقاةِ بماءِ السَّيلِ.
وقولُه: "أمَّا" في صَدرِ الحديثِ يُفيدُ أنَّ الرِّوايةَ هنا اقتصَرَتْ في الكلامِ على أهلِ النَّارِ، ومَن يَخرجُ منها، وإلَّا فقد ورَد في الصَّحيحين تفصيلُ الكلامِ عن أهلِ الجنَّةِ أيضًا.