مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه449
حدثنا عفان، حدثنا همام، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن، فليمحه "وقال: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، حدثوا عني ولا تكذبوا علي (1) "، قال: " ومن كذب علي - قال همام: أحسبه قال: متعمدا - فليتبوأ مقعده من النار " (2)
كان الصَّحابةُ الكِرامُ رَضيَ اللهُ عنهم يَحفَظون سُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بطُرقٍ مُتعدِّدةٍ؛ فمِنهم مَن كان يَحفَظُ بعَقْلِه وقَلْبِه، ومِنهم مَن كان يُدوِّن في الصُّحفِ والكُتُبِ، ومنهم المُكثِرُ والمُقِلُّ في كلِّ ذلك.
وفي هذا الحديثِ يَنهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم عن كِتابةِ حَديثِه وما يُخبِرُ به، واسْتَثْنى مِن ذلكَ القرآنَ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهو الَّذي يُكتَبُ فقطْ، ويُمْحى ويُمسَحُ ما هو دونَه، قيل: إنَّ هذا كان في أوَّلِ الأمرِ، وإنَّ نَهْيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُكتَبَ الحديثُ مَع القُرآنِ في صَحيفةٍ واحدَةٍ؛ لئَلَّا يَختَلِطَ بهِ فيَشتبِهَ على القارِئِ، لكنْ بعْدَ أنْ رَسَخَ حِفظُ القرآنِ عندَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم وتَبايَنَ لهم في صُدورِهم وصُحفِهم، ولم يُخْشَ خلْطُهم بيْن كَلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ وكَلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ أَذِنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كِتابةِ حَديثِه، فعندَ أبي داودَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: كُنتُ أكتُبُ كلَّ شَيءٍ أسْمَعُه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُرِيدُ حِفظَه، فنَهَتْني قُرَيشٌ، وقالوا: أتَكتُبُ كلَّ شَيءٍ تَسمَعُه ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضَبِ والرِّضا؟! فأمسَكْتُ عن الكتابِ، فذَكَرتُ ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأومَأَ بإصبعِه إلى فِيه، فقال: «اكتُبْ؛ فوالَّذي نَفْسي بيَدِه، ما يَخرُجُ منه إلَّا حقٌّ».
وقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وحَدِّثُوا عَنِّي، ولا حَرَجَ» معناه: أنَّ النَّهيَ السَّابقَ في الحديثِ مُختَصٌّ بالكتابةِ فقطْ لا بالتَّحديثِ عنه، فلا حَرَجَ على مَن حَفِظَ الحديثَ، ثمَّ أدَّاه مِن حِفظِه؛ لأنَّ الَّذي حَفِظ الحديثَ قادرٌ على تَمييزِه عن القرآنِ، بخِلافِ مَن اقتَصَرَ على الكِتابةِ فقطْ، فربَّما أخطَأَ بيْن القرآنِ وحَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثُمَّ حذَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الكذِبِ عَليه ووَضعِ الحديثِ وقولِ ما لم يَقُلْه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والكذبُ يَشمَلُ المتُعمِّدَ وضَعيفَ الحديثِ، إلَّا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَصَّ الوعيدَ الآتيَ بمَن تَعمَّدَ الكذبَ عليه: «فلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ»، أي: ليتَّخِذْ مَوضِعًا له في نارِ جهنَّمَ يومَ القِيامةِ ويَستَعِدَّ لدُخولهِا؛ زَجرًا وتَخويفًا مِنَ الإقدامِ على هذه الكبيرةِ.
والكذِبُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَريمةٌ عُظمى، ولا يُساويه أيُّ كَذِبٍ على شَخصٍ آخرَ؛ لأنَّ حقَّه أعظَمُ، وحقَّ الشريعةِ آكَدُ، ولأنَّ الكذبَ عليه ذَريعةٌ إلى إبطالِ شَرعِه، وتَحريفِ دِينِه.
وفي الحديثِ: الأمرُ بتَدوينِ وكِتابةِ القرآنِ.
وفيه: الدَّعوةُ إلى حِفظِ حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: التَّحذيرُ مِن سُوءِ عاقبةِ الكذِبِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.