‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه487

مسند احمد

‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه487

حدثنا إسماعيل، أخبرنا (3) هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: تذاكرنا ليلة القدر في نفر من قريش، فأتيت أبا سعيد الخدري، وكان صديقا لي، فقلت: اخرج بنا إلى النخل فخرج وعليه خميصة له، فقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر، قال: نعم. اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسط من رمضان، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين، فقال: " أريت ليلة القدر، فأنسيتها - أو قال: فنسيتها - فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع "، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابة فمطرنا، حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته (1)

أكرَمَ اللهُ تَعالى هذه الأُمَّةَ بلَيلةِ القَدْرِ، فجَعَلَها خيرًا مِنْ ألْفِ شَهْرٍ، وبيَّنَ لنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلاماتِ هذه اللَّيلةِ والأوْقاتَ التي تَكونُ فيها؛ حتَّى يُدْرِكَها المُسلِمُ، ويَنالَ هذا الخَيرَ العَظيمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابعيُّ أبو سَلَمةَ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ: "تَذاكَرْنا لَيْلةَ القَدْرِ" ذَكرَ بَعضُنا لِبَعضٍ لَيْلةَ القَدْرِ؛ فذَكَرْنا فَضْلَها ووَقْتَها، وفي أيِّ يَومٍ تَقَعُ؟ "فقالَ بَعضُ القَومِ: إنَّها تَدورُ من السَّنةِ" يَتغيَّرُ مَوعِدُها سَنةً بعدَ أُخرى دُونَ تَحْديدِ لِلَيْلةٍ بعَينِها، وسُمِّيَتْ (لَيْلةَ القَدْرِ)؛ لعَظيمِ قَدْرِها وشَرَفِها، وقيلَ: لأنَّ للطَّاعاتِ فيها قَدْرًا، وقيلَ غيرُ ذلِكَ، "فمَشَيْنا إلى أبي سَعيدٍ الخُدريِّ" صاحِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان هذا عادةَ التَّابِعينَ أنْ يرُدُّوا العِلمَ لِصَحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَا له من الحقِّ بتِلك الصُّحْبةِ، "قُلتُ: يا أبا سَعيدٍ، سَمِعتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُ لَيْلةَ القَدْرِ؟" بمَعْنى: هل حدَّدَها في أيِّ الأيَّامِ تَقَعُ من العَشرِ الأواخِرِ من رَمَضانَ؟ فقالَ أبو سَعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه: "نَعَمْ، اعتَكَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَشْرَ الوَسَطَ من رَمَضانَ"، والاعْتِكافُ هو لُزومُ المَسجِدِ للطَّاعَةِ، وكانت بِدايةُ اعتِكافِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا العامِ من لَيْلةِ الحادي عَشَرَ إلى نِهايةِ اليَومِ العَشْرينَ ولَيْلَتِهِ "واعتَكَفْنا معه" في المَسجِدِ النَّبويِّ، "فلمَّا أصْبَحْنا صَبيحةَ عِشْرينَ رجَعَ ورَجَعْنا معه" عاوَدْنا الاعتِكافَ مرَّةً أُخْرى "وأُرِيَ لَيْلةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيَها فقالَ: إنِّي رَأيتُ لَيْلةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنسيتُها" عَلِمتُ عَينَها في أيِّ يَومٍ، ثُمَّ رُفِعَ عَنِّي عِلمُ عَينِها، "فأُراني أسجُدُ في ماءٍ وطِينٍ" بمَعْنى: أنَّ عَلامَتَها أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى كأنَّه يَسجُدُ في مَاءٍ وَطينٍ، "فمَنِ اعتَكَفَ معي، فلْيَرجِعْ إلى مُعتَكَفِهِ" يُواصِلُ اعتِكافَهُ، ثُمَّ قالَ: "ابتَغوها في العَشرِ الأواخِرِ في الوِترِ منها" اطْلُبوها وتَحَرُّوها في اللَّيالي الوِتْريَّةِ من العَشْرِ الأواخِرِ من رَمَضانَ، ثُمَّ قال أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رضِيَ اللهُ عنه: "وهاجَتْ علينا السَّماءُ آخِرَ تِلك العَشيَّةِ"، فأمْطَرَتْ مَطَرًا شَديدًا، وكأنَّ المطَرَ عَلامةٌ من اللهِ على أنَّها تِلك اللَّيلةُ، "وكان نِصفُ المَسجِدِ عَريشًا من جَريدٍ"، وكان جُزءٌ من سَقفِ المَسجِدِ مُغطًّى بجَريدِ النَّخلِ، "فوكَفَ"، فنزَلَ منه ماءُ المَطَرِ على مَن في المَسجِدِ، "فوالَّذي هو أكرَمَهُ وأنزَلَ عليه الكِتابَ، لرَأيتُهُ يُصلِّي بنا صَلاةَ المَغرِبِ لَيْلةَ إحْدى وعِشرينَ، وإنَّ جَبهَتَهُ وأرْنَبةَ أنْفِهِ لَفي الماءِ والطِّينِ"، بمَعْنى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَسجُدُ ومُقدِّمةُ رَأسِهِ وطَرَفُ أنْفِهِ يُغطِّيهما الماءُ والطِّينُ من أثَرِ المَطَرِ، وكان في ذلِكَ اكتِمالُ العَلامةِ الَّتي أراها اللهُ له على أنَّ لَيْلةَ الحادي والعِشْرينَ من رَمَضانَ هي لَيْلةُ القَدْرِ في هذا العامِ، وَهذا تَصْديقُ رُؤياهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقد ورَدَتْ رِواياتٌ مُتعدِّدةٌ في تَحْديدِ وَقتِ لَيْلةِ القَدْرِ، وللعُلَماءِ كَلامٌ طَويلٌ في الجَمْعِ أو التَّرْجيحِ بيْنَ هذه الرِّواياتِ، ومن ذلِكَ: أنَّ لَيلةَ القَدْرِ تَنتقِلُ كُلَّ سَنةٍ في العَشرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ، فيَنبَغي الاجتِهادُ في الْتِماسِها في اللَّيالي، والإكْثارِ فيها مِن العِبادةِ؛ لنَيلِ هذا الأجْرِ العظيمِ .