‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما155

مسند احمد

‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما155

حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام "

حَرَّم اللَّهُ تعالى الخَمرَ؛ لِما فيها مِنَ الأضرارِ والمَفاسِدِ على البَدَنِ والمالِ والمُجتَمَعِ، والخَمرُ هو كُلُّ ما خامَرَ العَقلَ، أي: غَطَّاه وأزالَه عن وَعيِه، فلا يَدري شارِبُ الخَمرِ بِتَصَرُّفاتِه، وبَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ كُلَّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وكُلَّ مُسكِرٍ حَرامٌ، سَواءٌ كان قليلًا أم كَثيرًا، ويَدخُلُ في ذلك جَميعُ أنواعِ الأشرِبةِ المُسكِرةِ، سَواءٌ كانت مِنَ التَّمرِ أوِ الزَّبيبِ أو غَيرِه، ما دامَ أنَّها تُسكِرُ، وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ المُختارُ بنُ فُلفُلٍ -وهو أحَدُ التَّابِعينَ- أنَّه سَأل أنَسَ بنَ مالِكٍ عنِ الشُّربِ في الأوعيةِ، أي: عن شُربِ العَصيرِ المُتَّخَذِ مِنَ الأوعيةِ ما حُكمُه، والمُرادُ بها أوعيةٌ مَخصوصةٌ تُتَّخَذُ، ويُسرِعُ التَّخَمُّرُ إليها. فقال أنَسٌ: نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ المِزَفَّتةِ، وهيَ الأواني التي تُطلى بالزِّفتِ، وهو القارُ؛ نَبَتَ يُحرَقُ إذا يَبِسَ تُطلى به السُّفُنُ، أي: نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شُربِ الشَّرابِ الذي يَكونُ في الإناءِ المُزَفَّتِ؛ لأنَّه يُسرِعُ في الإسكارِ، وقال: كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ، أي: ما أسكَرَ وأزالَ العقلَ فإنَّه حَرامٌ. فقال المُختارُ لأنَسٍ: وما المِزَفَّتةُ؟ أي: ما المَقصودُ بالإناءِ المُزَفَّتِ؟ فقال أنَسٌ: المُقَيَّرةُ. وهيَ المِزَفَّتةُ المَطليَّةُ بالقارِ، ثُمَّ قال المُختارُ لأنَسٍ: فالرَّصاصُ والقارورةُ؟ أي: فالشُّربُ مِنَ الإناءِ المَصنوعِ مِنَ الرَّصاصِ، وهو نَوعٌ مِنَ المَعادِنِ، أوِ القارورةُ، وهو إناءُ الزُّجاجِ، ما حُكمُه؟ فقال أنَسٌ: ما بَأسٌ بهما، أي: ليسَ فيهما بَأسٌ، ولعَلَّه لأنَّه لا يُسرِعُ الإسكارُ فيها. فقال المُختارُ: فإنَّ ناسًا يَكرَهونَهما، أي: هناكَ أُناسٌ يَكرَهونَ الشُّربَ مِن آنيةِ الرَّصاصِ والقارورةِ. فقال أنَسٌ: دَعْ ما يَريبُك. الرَّيبُ: الشَّكُّ، وقيل: هو الشَّكُّ مَعَ التُّهمةِ، أي: اترُكْ ما تَشُكُّ فيه مِنَ الأقوالِ والأعمالِ: أمَنهيٌّ عنه أم لا، أحَسَنٌ أم قَبيحٌ، أم حَلالٌ أم حَرامٌ، إلى ما لا يَريبُك، أي: إلى ما لا تَشُكُّ فيه، أي: ما تَتَيَقَّنُ مِن حُسنِه وحِلِّه، والمَقصودُ: أن يَبنيَ المُكَلَّفُ أمرَه على اليَقينِ البَحتِ والتَّحقيقِ الصِّرفِ، ويَكونَ على بَصيرةٍ في دينِه؛ فإنَّ كُلَّ مُسكِرٍ حَرامٌ، أي: أنَّ العِبرةَ بالإسكارِ، فكُلُّ نَبيذٍ في أيِّ إناءٍ يُخشى مِنه الإسكارُ يُترَكُ؛ فإنَّ كُلَّ مُسكِرٍ حَرامٌ. فقال المُختارُ لأنَسٍ: صَدَقتَ، السَّكَرُ حَرامٌ، فالشَّربةُ والشَّربَتانِ على طَعامِنا؟ أي: أنتَ صادِقٌ في أنَّ كُلَّ ما أسكَرَ فهو حَرامٌ، ولعَلَّه فَهِم أنَّ ذلك إذا كان المُسكِرُ كَثيرًا؛ ولذا سَأله عَمَّا إذا شَرِبَ الشَّخصُ شَربةً واحِدةً أو شَربَتَينِ فما حُكمُه؟ فقال أنَسٌ: ما أسكَرَ كَثيرُه فقَليلُه حَرامٌ، أي: أنَّ الشَّربةَ الواحِدةَ يَحرُمُ تَناوُلُها إذا كانت مِن شَرابٍ يُسكِرُ كَثيرُه، فالعِبرةُ ليسَت بالقِلَّةِ والكَثرةِ وإنَّما بالإسكارِ. ثُمَّ أخبَرَه وقال له: الخَمرُ مِنَ العِنَب، والتَّمرِ، والعَسَلِ، والحِنطةِ، والشَّعيرِ، والذُّرةِ، أي: أنَّ الخَمرَ يَكونُ مِن هذه الأصنافِ السِّتَّةِ، ولا يَنحَصِرُ فيها، فما خَمَرَت مِن ذلك -مِنَ التَّخميرِ والسَّترِ والتَّغطيةِ، أي: ما اشتَدَّت وأسكَرَت وسَتَرَتِ العَقلَ، وإن كانت مِن غَيرِ هذه الأصنافِ، وإنَّما ذَكَرَ هذه الأصنافَ؛ لأنَّها كانت هيَ المُستَعمَلةَ للشُّربِ في عَصرِهم- فهيَ الخَمرُ، أي: التي حَرَّمَ اللهُ شُربَها.
وفي الحَديثِ النَّهيُ عنِ الشُّربِ في الإناءِ المُزَفَّتِ.
وفيه تَحريمُ كُلِّ مُسكِرٍ سَواءٌ كان قَليلًا أو كَثيرًا.
وفيه قاعِدةٌ عَظيمةٌ في تَركِ ما يَريبُ الشَّخصَ إلى ما لا يَريبُه.
وفيه مَشروعيَّةُ الشُّربِ مِنَ الإناءِ المُتَّخَذِ مِنَ الرَّصاصِ والقارورةِ.
وفيه بَيانُ بَعضِ الأصنافِ التي يُتَّخَذُ مِنها الخَمرُ.