مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما455
مسند احمد
قال يعقوب: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة (1) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله، فيما كانت تظهر من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: قال: فبينما (2) هم كذلك (3) ، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر (4) بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: " تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح "، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه (1) بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت جهولا، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد، اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما (2) هم في ذلك، إذ (3) طلع عليهم (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به، يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، أنا الذي أقول ذلك "، قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، دونه، يقول وهو يبكي: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28] ؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط (5)
بَعَثَ اللَّهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لدَعوةِ النَّاسِ إلى تَوحيدِ اللهِ وإخراجِ النَّاسِ مِن عِبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، ولمَّا بَدَأ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعوتَه بَدَأ بدَعوةِ قَومِه قُرَيشٍ، فبَلَّغَهمُ الدَّعوةَ ودَعاهم إلى عِبادةِ اللهِ تعالى، فلَم يَستَجيبوا له بَل آذَوه أشَدَّ الأذى بالقَولِ والفِعلِ، فقالوا عنه: ساحِرٌ وشاعِرٌ وكاهِنٌ ومَجنونٌ، وكانوا يُؤذونَه وهو يُصَلِّي عِندَ الكَعبةِ، ووضَعوا فوقَه القاذوراتِ وهو ساجِدٌ، ومِمَّا جاءَ في إيذائِهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما ذَكَرَه عَبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما في هذا الحَديثِ، ولهذا الحَديثِ قِصَّةٌ، وهو أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو سُئِلَ: ما أكثَرُ ما رَأيتَ قُرَيشًا أصابَت مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيما كانت تُظهِرُ مِن عَداوتِه؟ فقال عَبدُ اللهِ: قد حَضَرتُهم، أي: قَبلَ أن يُسلِمَ عَبدُ اللهِ بنُ عَمرصَلاتو، وقدِ اجتَمَعَ أشرافُهم في الحِجْرِ، أي: الحِجْرِ الذي عِندَ الكَعبةِ، الذي يُقالُ له: حِجرُ إسماعيلَ، فذَكَروا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: ما رَأينا مِثلَ ما صَبَرْنا عليه مِن هذا الرَّجُلِ قَطُّ؛ سَفَّه أحلامَنا، أي: نَسَبَ عُقَلاءَنا إلى الجَهلِ، وشَتَمَ آباءَنا، وعابَ دينَنا، وفَرَّق جَماعَتَنا، وسَبَّ آلهَتَنا، لَقد صَبَرْنا مِنه على أمرٍ عَظيمٍ، فبَينا هم في ذلك إذ طَلَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقبَلَ يَمشي حَتَّى استَلَمَ الرُّكنَ، أي: الحَجَرَ الأسوَدَ، فمَرَّ بهم طائِفًا بالبَيتِ، فلَمَّا أن مَرَّ بهم غَمَزوه ببَعضِ القَول، أي: أشاروا إليه بأعيُنِهم وحَواجِبهمُ استِهزاءً به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يَقولُ عَبدُ اللهِ: وعَرَفتُ ذلك في وَجهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: أنَّ وَجهَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَغَيَّرَ وظَهَرَت عليه عَلاماتُ الغَضَبِ، ولَكِنَّه سَكَتَ ومَضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا مَرَّ بهمُ الثَّانيةَ غَمَزوه بمِثلِها، فعَرَفتُ ذلك في وَجهِه، ثُمَّ مَضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَرَّ بهمُ الثَّالثةَ، غَمَزوه بمِثلِها، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ذلك: أتَسمَعونَ يا مَعشَر قُرَيشٍ، أمَا والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لَقد جِئتُكُم بالذَّبحِ! أي: بالهَلاكِ والقَتلِ إن لَم تُؤمِنوا، فكَما أنَّه بُعِث صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرَّحمةِ وهدايةِ النَّاسِ، كذلك بُعِث بالقَتلِ لمَن عانَدَ الدَّعوةَ وحارَبَ، فهو نَبيُّ الرَّحمةِ ونَبيُّ المَلحَمةِ، أي: القِتالِ. فلَمَّا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم ذلك أخَذَت كَلِمَتُه فيهم، أي: أثَّرَت فيهم، وخافوا لأنَّهم يَعلَمونَ أنَّه الصَّادِقُ الأمينُ، فما يَقولُه سيَكونُ حَقًّا، حَتَّى ما مِنهم رَجُلٌ إلَّا لَكَأنَّما على رَأسِه طائِرٌ واقِعٌ، أي: مِن عَدَمِ تَحَرُّكِه ويُبوسةِ جَوارِحِه؛ إذِ الطَّيرُ لا يَقَعُ على مُتَحَرِّكٍ. حَتَّى إنَّ أشَدَّهم فيه وطأةً قَبلَ ذلك، أي: أشَدَّهم جُرأةً وإقدامًا في مُعاداةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي رِوايةٍ: أشُدَّهم فيه وَصاةً، أي: وصيَّةً على إيذائِه، يترَفَّؤه بأحسَنِ ما يُجيبُ مِنَ القَولِ! أي: يُسكِنُه ويَرفُقُ به ويَدعو له خَوفًا مِنَ القَتلِ، ويَقولُ له: انصَرِفْ يا أبا القاسِمْ! انصَرِفْ راشِدًا؛ فواللهِ ما كُنتَ جَهولًا، أي: لَم نَعرِفكْ بالذي يَجهَلُ على مَن تَكَلَّمَ عليك وآذاك. فانصَرَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَتَّى إذا كان مِنَ الغَدِ اجتَمَعَ كُفَّارُ قُرَيشٍ في الحِجْرِ، وأنا مَعَهم، أي: عَبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو. فقال بَعضُهم لبَعضٍ: ذَكَرتُم ما بَلَغَ مِنكُم، أي: مِنَ الأذى للنَّبيِّ، وما بَلَغَكُم عنه، أي: مِنَ الكَلامِ فيكُم، حَتَّى إذا بادَأكُم، أي: أظهَرَ لَكُم ما تَكرَهونَ تَرَكتُموه! فبَينَما هم في أمرِهم ذلك إذ طَلَعَ عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوثَبوا إليه وثبةَ رَجُلٍ واحِدٍ، أي: قاموا إليه قَومةَ رَجُلٍ واحِدٍ، وأحاطوا به وقالوا له: أنتَ الذي تَقولُ كَذا وكَذا؟ أي: مِمَّا كان يَبلُغُهم عنه مِن عَيبِ آلهَتِهم ودينِهم. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شَجاعةٍ وثَباتٍ: نَعَم، أنا الذي أقولُ ذلك! فإذا برَجُلٍ مِنهم. وهو عُقبةُ بنُ أبي مُعَيطٍ، كما في رِوايةٍ أُخرى، أخَذَ بمَجمَعِ رِداءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: شَدَّ عليه الرِّداءَ وخَنقَه مِن مَكانِ اجتِماعِ طَرَفَيِ الرِّداءِ عِندَ العُنُقِ، ففي رِوايةٍ: إذ أقبَلَ عُقبةُ بنُ أبي مُعَيطٍ فأخَذَ بمَنكِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَوى ثَوبَه في عُنُقِه، فخَنَقَه به خَنقًا شَديدًا. فقامَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه دونَه، أي: يُحامي على رَسولِ اللهِ ويَمنَعُهم مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَقولُ لهم وهو يَبكي: أتَقتُلونَ رَجُلًا أن يَقولَ رَبِّي اللَّهُ، أي: كَيف تَقتُلونَ رَجُلًا ليس له ذَنبٌ إلَّا أنَّه قال: رَبُّه اللَّهُ، ودَعاكُم إلى اللهِ تعالى. ثُمَّ انصَرَف كُفَّارُ قُرَيشٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يَقولُ عَبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو: فهذا أشَدُّ ما رَأيتُ قُرَيشًا بَلَغَت مِن إيذاءٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي الحَديثِ الشِّدَّةُ والزَّجرُ على مَنِ اشتَدَّت عَداوتُه للدِّينِ.
وفيه مَعرِفةُ كُفَّارِ قُرَيشٍ بأخلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه شِدَّةُ مُعاداةِ أهلِ الباطِلِ لأهلِ الحَقِّ.
وفيه بَيانُ ما تَعَرَّضَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الأذى مِن قَومِه.
وفيه صَبرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إيذاءِ قَومِه له.
وفيه شَجاعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مواجَهةِ كُفَّارِ قُرَيشٍ.
وفيه فَضلُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه ودِفاعُه عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه استِشهادُ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لحالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ الذي قال أتَقتُلونَ رَجُلًا أن يَقولَ رَبِّي اللَّهُ .