[باب] : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين
بطاقات دعوية
عن ابن أبى مليكة قال: قال ابن عباس - رضى الله عنهما -: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} خفيفة ذهب بها هناك (13)، وتلا: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} , فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: معاذ الله! والله ما وعد الله رسوله من شىء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم، فكانت تقرؤها: {وظنوا أنهم قد كذبوا} (14) مثقلة.
لقدْ نالتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها حَظًّا وَفيرًا مِن العِلمِ والفِقهِ في الدِّينِ، فكان الصَّحابةُ بعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذا مَن عاصَرَها مِن التَّابعينَ يَسأَلونها عمَّا جَهِلوه أو أشْكَلَ عليهم فَهْمُه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه سَأَلَ خالَتَه أمَّ المؤمِنينَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها زَوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن قولِ اللهِ تعالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] بالتَّشديدِ «كُذِّبُوا»، أو بالتَّخفيفِ {كُذِبُوا}؟ فقالتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها: ليس الظَّنُّ كما فَهِمْتَ! بلْ كذَّبَهم -بالتَّشديدِ- قومُهم، فهو بِمعنى اليَقينِ، وهو سائغٌ، كما في قولِه تعالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]. فقال عُرْوةُ: «واللهِ لقَدِ اسْتَيقَنُوا أنَّ قَومَهم كذَّبُوهم، وما هو بِالظَّنِّ»، فقالتْ عائشةُ رادَّةً عليه: يا عُرَيَّةُ -تَصغيرُ عُرْوةَ- لقدِ استَيقَنوا بذلك.
فقال عُرْوَةُ: فلعلَّها «أو كُذِبوا»؟ فقالتْ: مَعاذَ اللهِ! لم تكُنِ الرُّسلُ تَظُنُّ ذلك، أي: لم تكُنْ تظُنُّ إخلافَ الوَعدِ برَبِّها، وأمَّا هذه الآيةُ فَالمرادُ مِنَ الظَّانِّينَ فيها أَتباعُ الرُّسلِ الَّذين آمَنوا وصدَّقُوا الرُّسلَ، وطالَ عليهمُ البلاءُ واستَأخَرَ عنهمُ النَّصرُ، حتَّى إذا استْيأسَت الرُّسلُ مِمَّنْ كَذَّبهم مِن قَومِهم، وظَنُّوا أنَّ أتْباعَهم كذَّبوهم؛ جاءَهم نَصْرُ اللهِ. وظاهِرُ هذا أنَّ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنكرَتْ قِراءةَ التَّخفيفِ؛ بِناءً على أنَّ الضَّميرَ في قولِه: {وَظَنُّوا} لِلرُّسلِ، ولعلَّها لم تَبلُغْها هذه القِراءةُ؛ فقدْ ثبَتَتْ مُتواتِرةً، وقدْ قرَأَ بها عاصمٌ وحمْزةُ والكِسائيُّ، ووُجِّهَتْ قِراءةُ التَّخفيفِ هذِه بأنَّ الضَّميرَ في {وَظَنُّوا} عائدٌ على المرسَلِ إليهم؛ لِتقدُّمِهم في قولِه تعالَى: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109]، ولأنَّ الرُّسلَ تَستدْعِي مُرسَلًا إليه، أي: وظَنَّ المرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قدْ كَذَبوهم بالدَّعوةِ والوَعيدِ. وقيل: الضَّميرُ الواردُ في قولِه تعالَى: {وَظَنُّوا} للمُرسَلِ إليهم، والضَّميرُ الواردُ في قولِه تعالَى: {كُذِبُوا} لِلرُّسلِ، أي: وظَنَّ المرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قدْ كُذِبوا وأُخلِفُوا فيما وُعِدَ لهم مِنَ النَّصرِ وخُلِطَ الأمْرُ عليهم.