باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر4
سنن ابن ماجه
حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير
عن جابر، قال: لما رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرة البحر، قال: "ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ " قال فتية منهم: بلى، يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا. قال: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ " (1)
كانتِ الهجرةُ إلى أرضِ الحبَشةِ أوَّلَ هجرةٍ أمَر بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أصحابَه؛ فِرارًا مِن تَنكيل الكفَّارِ بهِم، وحِفظًا لحياتِهم في ظلِّ مَلِكٍ لا يُظلَم عِندَه أحدٌ، وهو النَّجاشيُّ مَلِكُ الحبَشةِ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ رَضِي اللهُ عَنهما، أنَّه: "لَمَّا رجَعَتْ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مُهاجِرةُ البحرِ"، وهم المهاجِرون إلى الحَبشةِ، وهم أهلُ السَّفينةِ الَّذين رَكِبوا البَحرَ؛ للوُصولِ إلى الحبَشةِ، ثمَّ رجَعوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بعدَ هِجرتِه إلى المدينةِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ألَا تُحدِّثوني بأعاجيبِ ما رأيتُم بأرضِ الحبَشةِ!"، والمرادُ بالأعاجيبِ: ما يَعجَبُ له المرءُ ويَوَدُّ سَماعَه؛ لِيتَّعِظَ منه ويَعتبِرَ، "قال فِتْيةٌ مِنهم"، أي: مِن هؤلاءِ المهاجِرين: "بَلى يا رسولَ اللهِ، بَيْنا نَحنُ جُلوسٌ مرَّتْ بنا عَجوزٌ مِن عَجائِزِ رَهابِينِهم"، أي: جمعُ راهبٍ، والرَّاهبُ: المنقطِعُ للعِبادةِ، والمرادُ به زاهدةٌ مِن زُهَّادِ النَّصارى، "تَحمِلُ على رأسِها قُلَّةً مِن ماءٍ"، والقُلَّةُ وِعاءٌ مِن الفَخَّارِ "فمَرَّتْ بفَتًى مِنهم فجعَل إحدى يدَيْه بينَ كتِفَيها ثمَّ دفَعَها فخَرَّت"، أي: فوَقَعَت "على رُكبتَيْها، فانكسَرَت قُلَّتُها، "فلمَّا ارتفَعَت"، أي: قامَت، "الْتفتَتْ إليه"، أي: إلى الَّذي أوقَعَها، "فقالت: سوف تَعلَمُ يا غُدَرُ"، أي: يا غادِرُ، يا كثيرَ الغدرِ، وهي لَفظةٌ أكثرَ ما تُستعمَلُ في الشَّتمِ، "إذا وضَعَ اللهُ الكُرسيَّ"، أي: نصَبَه ليُحاسِبَ العِبادَ، "وجمَع الأوَّلين والآخِرين"، أي: الأُممَ السَّابقةَ واللَّاحقةَ مِن الخَلقِ، "وتَكلَّمَتِ الأيدي والأرجُلُ بما كانوا يَكسِبون"، أي: نَطَقَت الجوارحُ بقُدرةِ اللهِ وأمرِه، فأخبَرَت بأعمالِها، "فسَوف تَعلَمُ كيف أمري وأمرُك عِندَه غدًا"، أي: قَدْري وقَدرُك عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قال جابرٌ رَضِي اللهُ عَنه: "يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: صَدَقَتْ صدَقَت"، مُقرًّا لقولِها ومثبِتًا إيَّاه، ثُمَّ قال: "كيف يُقدِّسُ اللهُ أُمَّةً"، أي: بأيِّ حقٍّ يُعظِّمُ اللهُ أمَّةً ويَرفَعُ شأنَها إذا كانت "لا يُؤخَذُ لضَعيفِهم مِن شَديدِهم؟!" أي: لا يُؤخَذُ حقُّ الضَّعيفِ مِن القويِّ، ومِن ذي رِئاسَتِهم وكبيرِ عَشيرتِهم لِحَقيرِهم؟! والاستِفهامُ منه إنكارٌ وتعجُّبٌ، معناه: أخبِروني كيف يُظْهِرُ اللهُ قومًا لا يَنصُرون الضَّعيفَ العاجِزَ على القويِّ الظَّالمِ، مع تَمكُّنِهم مِن ذلك؟! وهذا تصديقٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لقولِ المرأةِ، وبيانٌ أنَّ مِن أحبارِ النَّصارى حينَئذٍ مَن كان يُؤمِنُ باللهِ وباليومِ الآخِرِ، وما يَحدُثُ فيه على وجهِ الحقِّ.
وفي الحديثِ: بيانُ ما تَحمَّلَه الصَّحابةُ الأوائلُ مِن مَشقَّةٍ في سبيلِ الدِّينِ والدَّعوةِ.
وفيه: دليلٌ أنَّ الأُمَّةَ تُعاقَبُ كلُّها إنِ اهتُضِم فيها الضَّعيفُ وتُرِك الإنكارُ عليه.