باب: بدأ الإسلام غريبا1
سنن ابن ماجه
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ويعقوب بن حميد بن كاسب وسويد بن سعيد، قالوا: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء" (1)
ظهَرَ الإسلامُ في عالَمٍ قد مُلِئَ بالظُّلمِ والشِّركِ والجَهلِ؛ فكانت إشراقاتُ تَعاليمِه غَريبةً بينَ أُناسٍ عاشوا في الظَّلامِ الدَّامسِ، وتَعرَّضَ أتباعُه الأوائلُ لمِحَنٍ شَديدةٍ حتَّى انتَشَرَ وظهَرَ.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الإسلامَ بدَأ غَريبًا؛ بقِلَّةِ أتباعِه ومُعاناتِهم، حيثُ خرَجَ وسطَ الجَهلِ، وطرَحَ عاداتِ الجاهليَّةِ، فاستَغرَبَه النَّاسُ في نُفوسِهم، ثُمَّ هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه رَضيَ اللهُ عنهم وهُم غُرَباءُ، فهذه صُوَرٌ مُتعدِّدةٌ للغُربةِ، ثُمَّ نَشَرَ اللهُ دينَه ودَخَلَ النَّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا، ثُمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الإسلامَ سيَعودُ غريبًا كما بدَأ؛ فيَكونُ غريبًا في نُفوسِ النَّاسِ وإن كَثُرَ عَدَدُ مَن يَنتَسبونَ إليه، حيثُ سيَعودُ انتِشارُ الجَهلِ، ويَرجعُ كثيرٌ منَ النَّاسِ إلى عاداتِ الجاهليَّةِ، ثُمَّ يَلحَقُ الدِّينَ النَّقصُ والإخلالُ حتَّى لا يَبقى إلَّا في قِلَّةٍ كما بدأ.
ثُمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ دينَ الإسلامِ «يَأرِزُ»، أي: يَنضَمُّ ويَجتمِعُ ويَرجِعُ، بينَ المَسجِدِ الحَرامِ والمَسجدِ النَّبويِّ، في مكَّةَ والمدينةِ، وهُما مَهدُ الإسلامِ ومُنطلَقُه، «كما تَأرِزُ الحَيَّةُ في جُحرِها»، أي: كَما تَعودُ الحَيَّةُ إلى جُحرِها إذا خافَت من شَيءٍ، فكذلكَ يَعودُ الإسلامُ -كما بدَأ من مكَّةَ والمَدينةِ- إلَيهِما مَرَّةً أُخرى.
ولأجلِ هذه الشِّدَّةِ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في روايةٍ أُخرى عندَ مُسلِمٍ: «فَطُوبى للغُرَباءِ»؛ فالجَنَّةُ لأُولئك المُسلِمين الذين قَلُّوا في أوَّلِ الإسلامِ، وسيَقِلُّون في آخِرِه. وقيلَ: «طُوبى»، أي: فَرحةٌ وقُرَّةُ عَينٍ، أو سُرورٌ وغِبطةٌ، وإنَّما خَصَّهم بذلك لصَبرِهم على أذيَّةِ الكُفَّارِ وأهلِ الابتِداعِ، وهؤلاءِ يَكونون على الدِّينِ الحقِّ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، ويَسيرونَ على ذلك بعدَ أن أفسَدَ النَّاسُ السُّننَ والشَّرائعَ وبدَّلوها.
وفي الحديثِ: فضلُ مَسجِدَيْ مكَّةَ والمدينةِ، وأنَّ الدِّينَ يَنضَمُّ ويَجتمِعُ بَينهُما ويَعودُ إليهما، وهو إشارةٌ إلى أنَّ المُؤمِنينَ يَفِرُّون إليهما؛ وِقايةً منَ الفِتن، وخوفًا على الدِّينِ.
وفيه: عَلَمٌ من أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.