‌‌باب تخفيف الأخريين

‌‌باب تخفيف الأخريين

حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبيد الله أبي عون، عن جابر بن سمرة، قال: قال عمر لسعد: قد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال: أما أنا «فأمد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال: ذاك الظن بك

أمر الله عز وجل المؤمن بإعطاء كل ذي حق حقه؛ فيعطي للعبادة الواجبة عليه حقها ويؤديها كما أمر الله عز وجل، ويعطي للوظيفة الموكلة إليه حقها ويؤديها كما كلف بها وكما ينبغي، ويعطي لعباد الله حقوقهم، ويأخذ هو حقه كاملا غير منقوص؛ فلا يظلم ولا يظلم

وفي هذا الحديث يحكي جابر بن سمرة رضي الله عنه أن أهل الكوفة شكوا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما كان أميرا على الكوفة، إلى عمر رضي الله عنه، فعزله عمر رضي الله عنه؛ لتهدئة النفوس، وإطفاء نار الفتنة، مع ثقته فيه، وأقام مكانه عمار بن ياسر رضي الله عنهما واليا عليهم. وكان عمر أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة 14 هـ، ففتح الله العراق على يديه، وأنشأ مدينة الكوفة عام 17هـ، وأقامه عمر بن الخطاب رضي الله عنه واليا عليها إلى أن عزله عام 21هـ، وقيل: 20هـ.وقد شكا بعض أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذكروا أشياء متعددة، وحقق فيها عمر رضي الله عنه فوجدها كلها باطلة، حتى ذكروا أنه لا يحسن أداء الصلاة؛ وذلك لسوء فهمهم، وجهلهم بكيفية الصلاة، لا لأنه رضي الله عنه لا يحسنها، فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن شكايتهم، فكناه قائلا: يا أبا إسحاق -وهي كنية سعد- إن هؤلاء يزعمون أنك لا تجيد الصلاة على الوجه الأكمل، فقال: أما أنا والله، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنقص منها شيئا؛ أصلي صلاة العشاء فأطيل القراءة في الأوليين؛ لأنه يقرأ بعد الفاتحة سورة أو ما تيسر من القرآن، وأخفف القراءة في الركعتين الأخريين فلا يقرأ بعد الفاتحة شيئا. وكأن ما عابوه في صلاته هو إطالته الأولى وتخفيفه الثانية، وكان من سألوه جهالا. وقد خص سعد رضي الله عنه صلاة العشاء بالذكر؛ لاحتمال كون شكواهم في هذه الصلاة، وقيل: المراد بقوله: «صلاتي العشاء» المغرب والعشاء، فقال له عمر رضي الله عنه: لقد أصبت السنة فيما فعلت، وصليت مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما نظنه فيك.وقد وقع في بداية الحديث أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد رضي الله عنه يسأله، ثم وجه إليه الخطاب بأسلوب الحاضر: «ذاك الظن بك يا أبا إسحاق»، وأجيب على ذلك بأنه كان غائبا ثم حضر. فأرسل معه إلى العراق رجلا أو رجالا، على رأسهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يترك مسجدا من مساجد الكوفة إلا سأل عنه، وجميعهم كانوا يثنون عليه خيرا ويزكونه، حتى دخل مسجدا لبني عبس، وهي قبيلة من قيس، فقام رجل اسمه أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ نشدتنا وسألتنا بالله تعالى أن نخبرك عن سعد، فإنا نقول: إن سعدا لا يخرج للغزو في سبيل الله، ولا يعدل في قسمته، ولا يعدل في الحكم بين الناس! وقد قال ما قاله ظلما وإجحافا بحق سعد رضي الله عنه، وألصق فيه ما ليس منه كذبا وافتراء، وكان قيامه للرياء والسمعة. فدعا عليه سعد رضي الله عنه، قائلا: أما والله، لأدعون بثلاث: «اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن»، فدعا عليه بثلاث دعوات؛ أولها بطول العمر ومراده أن يطول عمره حتى يرد إلى أرذل العمر، حيث يهن عظمه، وتنتكس قواه؛ فهي دعوة على الرجل لا له. وجمع له مع طول العمر الدعوة الثانية بأن يسلط الله عليه الفقر الطويل، وهذا أشد ما يكون من سوء العيش في الحياة، وجمع له الثالثة التي هي أشد من الأوليين، وهي: أن يجعله الله عرضة للفتن أو أن يدخله فيها، ففتن بالنساء؛ فكان هذا الرجل المدعو عليه إذا سئل عن سوء حاله الذي هو فيه، يقول: أنا شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد التي أجيبت في. وذكر بقوله: «شيخ كبير» تحقق الدعوة الأولى: «أطل عمره»، وذكر بقوله: «مفتون» تحقق الدعوة الثالثة، ولم يذكر الدعوة الثانية: «وأطل فقره»؛ لأنها داخلة ضمن قوله: «أصابتني دعوة سعد».قال عبد الملك- أحد رواة الحديث، وهو ابن عمير بن سويد الكوفي-: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق، يغمزهن، بمعنى: يغازلهن أمام الناس، وهذا من الشهادة بتحقق استجابة سعد رضي الله عنه، ودعوة سعد رضي الله عنه على هذا الرجل هي من الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته

وفي الحديث: فضيلة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأنه كان مجاب الدعاء

وفيه: مشروعية إطالة الركعة الأولى، وتخفيف الثانية

وفيه: اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا يصلون كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي

وفيه: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فقد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده؛ حسما لمادة الفتنة، ودرءا للمفسدة

وفيه: تكنية الرجل الجليل بكنيته