باب صفة الجنة والنار 13
بطاقات دعوية
عن عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا: رجل يخرج من النار كبوا، (وفي رواية: حبوا 8/ 202)، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يارب! وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل ال
جنة، فيخيل إليه أنها ملأى، فيأتيها، فيرجع فيقول: يارب! وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة؛ فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: تسخر مني، أو تضحك مني وأنت الملك؟! ". فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه. وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.
الجَنَّةُ هي دارُ النَّعيمِ المُقيمِ الذي أعدَّه اللهُ لعِبادِه المُتَّقينَ المؤمِنينَ، ومَن رأى هولَ المَحشَرِ والقيامةِ، ثُمَّ فازَ بالجَنَّةِ؛ فإنَّه يَعلَمُ مِقدارَ نِعمةِ اللهِ وفَضلِه عليه، ومع ذلك فإنَّ الكريمَ الرَّحيمَ يَتكرَّمُ على عِبادِه بأفضالِه ومَثوبتِه، ويَزيدُهم من نِعَمِه وكَرامتِه.
وفي هذا الحديثِ بَيانٌ لِعَظَمةِ اللهِ ورَحمتِه وجَزيلِ عَطائه لِعبدِه؛ فيُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ آخِرَ مَن يَدخُلُ الجنَّةَ رجُلٌ، يكونُ من شأنِه قبْلَ دُخولِها أنَّه يَمشي مَشيًا ضَعيفًا مَرَّةً، ويَسقُطُ على وَجهِه مَرَّةً؛ وذلك من شِدَّةِ ما كان فيه مِنَ الخوفِ والفزَعِ، «وتَسْفَعُه النَّارُ مَرَّةً»، وتُصيبُه النَّارُ وتُحرِقُه مَرَّةً، وفي هذا تَصويرٌ لِما يَحدُثُ مِنَ الرَّجُلِ قبلَ أن يُقبِلُ على المَولى جَلَّ شأنُه، والسَّفعُ: الضَّربُ على الوجه مُؤثِّرًا فيه بعَلامةٍ، فإذا ما ابتعدَ العبدُ عنِ النَّارِ، التَفَتَ إليها، فنظرَ إليها بَوجهِه، وقالَ الرَّجلُ: «تبارك»، أي: جَلَّ شأنُه على سائرِ خَلقِهِ، الَّذي أنقَذَني مِنَ النَّارِ، ومن شِدَّةِ فَرَحِه يُحدِّثُ نفسَه أنَّه قد أعْطاه اللهُ شيئًا، ومَنَّ عليه وفضَّلَه بنِعَمِه وكَرَمِه بهذا الأمرِ الذي ما أكرمَ به أحدًا من خَلقِه غيرَه، فأثنَى الرَّجلُ على اللهِ عزَّ وجلَّ بما أنجاه مِنَ النَّارِ، وأعَدَّ نَجاتَه مِنَ النَّارِ هي من أعظَمِ نِعَمِ اللهِ عليه.
ثُمَّ بَيَّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجُلَ لم يَكتفِ بنِعمةِ نَجاتِه من النَّارِ، بل صار يَطمَعُ في كَرمِ اللهِ وفضلِه عليه، فأخبَرَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجلَ وهو على تلك الحالِ، ظهَرت له شَجرةٌ، فيَقولُ الرَّجُلُ راجيًا رَبَّه: يا رَبِّ، قَرِّبني من هذه الشَّجرةِ، «فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّها»، أي: أنعَمَ وأنتفِعَ بظِلِّها، «وأشْرَبَ من مائِها»، وفي هذا إشارةٌ إلى ما كانَ بِجِوارِ الشَّجرةِ من ماءٍ.
فيَقولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: «يا ابنَ آدمَ، لَعَلِّي إنْ أَعْطَيْتُكَها»، أي: قرَّبتُكَ منها، «سَألْتَني غيْرَها»، بأنْ تَطمَعَ فيما هو أفضَلُ من ذلك، فيَقولُ الرَّجُلُ مُجاوِبًا رَبَّه: لا يا رَبِّ، لن أطمَعَ في غيرِها، ويُعاهِدُ اللهَ ألَّا يَسألَه غيرَها مِمَّا سيَظهَرُ له، ويُعَلِّقُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ذلك بقولِه: «ورَبُّه يَعْذِرُه»، أي: يَجعَلُه مَعذورًا غيرَ مَلومٍ، فيَقبَلُ منه ولا يَمنعُه إذا طَمِعَ؛ «لأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ له عليه» مِنَ النَّعيمِ الَّذي يَراه ولا يَقدِرُ أن يَمتنِعَ عن طَلبِه.
فيُقرِّبُه اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَ الشَّجرةِ، فيَستَظِلُّ بِظِلِّها ويَشرَبُ من مائها، ثُمَّ تَظهَرُ له شجرةٌ هي أحسَنُ مِنَ الأُولى الَّتي هو تحتَها، فيَطلبُ الرَّجُلُ راجيًا من رَبِّه أن يُقرِّبَه مِنَ الشَّجرةِ الثَّانيةِ؛ ليستظلَّ بظِلِّها ويَشربَ من مائها، ويؤكِّدُ أنَّه لن يسألَ ربَّه عن شَيءٍ آخَرَ بعدَها؛ فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ له: «يا ابنَ آدمَ، أَلَمْ تُعاهِدْني ألَّا تَسْألَني غيْرَها؟» أي: ألَم يَسبِق منكَ هذا العهدُ في الشَّجرةِ الَّتي أنتَ بِقُربِها الآنَ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَعَلِّي إن أدنَيتُكَ منها وقرَّبتُكَ تَسألْني غيرَها، فتَطمعَ فيما سيَظهرُ لك من نِعَمٍ، فيُعاهِدُ الرَّجُلُ رَبَّه بِمِثلِ ما عاهَدَه في الشَّجرةِ الأُولى، ويُعَلِّقُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِمِثلِ ما عَلَّقَ عليه في الأُولى بقولِه: «ورَبُّه يَعْذِرُه؛ لأنَّه يَرى ما لا صَبْرَ له عليه»، فيُقرِّبُه اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَ الشَّجرةِ الثَّانيةِ، فيَستَظِلُّ بِظِلِّها ويَشرَبُ من مائها، ثُمَّ يُظهِرُ اللهُ له شجرةً ثالثةً قريبةً من بابِ الجَنَّةِ، فيَطمَعُ الرَّجلُ فيها بمِثلِ ما طَمِعَ في الشَّجرتَينِ السَّابِقتَينِ، ويَقَعُ معه مِثلُ ما وَقَعَ في المَرَّتَينِ السَّابقتَينِ، فيُقرِّبُه اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَ الشَّجرةِ الَّتي بِجِوارِ بابِ الجَنَّةِ، فإذا ما اقتربَ منها واستَظَلَّ بِظِلِّها، سَمِعَ الرَّجُلُ أصواتَ أهلِ الجَنَّةِ، في مؤانَستِهم مع أزواجِهم، أو في مُحاوَرتِهم مع أصحابِهم، فأرادَ الاستئناسَ بهِم، والتَّقرُّبَ منهم ليَلْتذَّ بنَعيمِهم، فيَطلُبُ الرَّجُلُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، فيَسألُه اللهُ عزَّ وجلَّ له: «يا ابنَ آدمَ، ما يَصْرِينِي منكَ؟» أي: ما يَقطَعُ مَسألتَك، وأيُّ شَيءٍ يُرضيك ويَقطُعُ السُّؤالَ بَيني وبينَك، وما الَّذي تَطلُبُه حتَّى تَقنَعَ به وتَكُفَّ عن مَسألتِك لي؟! فقد أجَبتُك إلى ما سألتَ كَرَّةً بعدَ كَرَّةٍ، وأخذتُ ميثاقَك ألَّا تَعُودَ، ولا تَسألَ غيرَه، وأنتَ لا تَفي بذلك، فما الذي يَفصِلُ بيني وبينك في هذه القضيَّةِ؟
ثُمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ تَعالَى قالَ له: أيُرضيكَ أن أُعطِيَكَ مِثلَ نَعيمِ الدُّنيا بأسرِها ومُلكِها وأَزِيدُ لك ضِعفَهُ؟ وهذا ليَنقطِعَ طلبُ هذا العبدِ، فقال العبدُ: يا رَبِّ، أتَستَهزِئُ مِنِّي وأنتَ رَبُّ العالمينَ؟! وإنَّما قال ذلك على سَبيلِ الفرحِ والاستِبشارِ؛ فلم يَضبِطْ لِسانَه بسَببِ الدَّهشَةِ والفرحِ بما عَرَضَ عليه اللهُ عزَّ وجلَّ.
فضَحِكَ عبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ، فقال لأصحابِه: ألَا تَسألوني: مِمَّ أضحكُ؟ فسَألَه أصحابُه: مِمَّ تَضحَكُ؟ قال ابنُ مَسعُودٍ: هكذا ضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: عندما انتَهى من قولِ الحديثِ؛ فقال أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مِمَّ تَضحَكُ يا رسولَ اللهِ؟ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: من ضَحِكِ رَبِّ العالمينَ حين قال الرَّجُلُ: أتَستَهزِئُ مِنِّي وأنتَ رَبُّ العالمينَ؟! والضَّحِكُ منَ اللهِ تَعالَى ومِن رَسولِه وإن كانا مُتَّفِقَينِ في اللَّفظِ، فإنَّهما مُتَبايِنانِ في المعنى؛ فإنَّ صِفاتِ اللهِ لا تُشابِه صِفاتِ المَخلوقينَ، فهو ضَحِكٌ يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه سُبحانَه وتعالَى، وإنَّما ضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لضَحِكِ ربِّ العالَمينَ، وأمَّا ضَحِكُ ابنِ مَسعُودٍ فكان اقتِداءً برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثُمَّ يَقولُ اللهُ تَعالَى للرَّجُلِ: إنّي لا أستَهزِئُ منكَ، أي: إنِّي لا أقولُ لك ذلك ولن أُعطيَك، ولكنِّي على ما أشاءُ قادِرٌ على أن أُعطِيَك مِثلَ نَعيمِ الدُّنيا وضِعفَ ذلك ولن يَنقُصَ من مُلكي شَيءٌ.
وفي تَتمَّةٍ عندَ مُسلِمٍ من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ «وَيُذَكِّرُهُ اللهُ: سَلْ كذا وكذا»، أي: يُذكِّرُ الرَّجلَ الَّذي يَكونُ أقلَّ أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً بما في الجَنَّةِ من نَعيمٍ غابَ عنه، ويُسمِّي له ما فيها، «فإذا انقطعَتْ به الأمانيُّ»، أيِ: انتهَت مَطالِبُه، ونَفِدَت رَغباتُه، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: هو لك ومعه عَشَرةُ أضعافِ ما تمنِّيتَ وطلَبتَ، ثُمَّ يَدخُلُ الرَّجلُ بَيتَه الذي في الجَنَّةِ، «فتَدخُلُ عليه زَوْجتاهُ مِنَ الحُورِ العِينِ»، والحُورُ العينُ: نِساءُ أهلِ الجَنَّةِ، والمُرادُ بالحَوراءِ: الشَّديدَةُ بَياضِ العَينِ الشَّديدةُ سَوادِها، والمُرادُ بالعينِ: واسعةُ العَينِ، فتَقُولانِ: «الحمدُ للهِ الَّذي أحْياكَ لنا وأحْيَانَا لكَ»، أي: فهو سُبحانَه الَّذي خَلَقَكَ لنا وخَلَقَنا لكَ، فيَظُنُّ الرَّجُلُ بما أعْطاه اللهُ من نَعيمٍ في الجَنَّةِ أنَّه أخَذَ أعلى مَنزِلةٍ في الجَنَّةِ.
وفي الحديثِ: أنَّ المُعَذَّبينَ في النَّارِ من أُمَّةِ التَّوحيدِ غيرُ مُخَلَّدينَ في النَّارِ وسيَخرُجون منها عندما يَأذَنُ اللهُ بذلك.
وفيه: بَيانٌ لِعِظَمِ نَعيمِ أهلِ الجنَّةِ في الآخِرةِ مُقارَنةً بأهلِ الدُّنيا؛ إذ أقلُّهم نَعيمًا له مِثلَي نَعيمِ أهلِ الدُّنيا.
وفيه: تَرغيبٌ للنَّاسِ في نَعيمِ الجَنَّةِ حتَّى يَزدادوا عملًا.