باب في قلة الدنيا والصبر عنها وأكل ورق الشجر 2
بطاقات دعوية
عن خالد بن عمير العدوي قال خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة (6) الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا ووالله لتملأن أفعجبتم ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهو كظيظ (7) من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا. (م 8/ 215 - 216)
وعَدَ اللهُ سُبحانه وتَعالَى بالأجرِ العظيمِ لمَن صَبَر على بَلاءِ الدُّنيا في سَبيلِ رِفعةِ الدِّينِ، ومِن ذلك أنَّه أعطى بِشارةً لأَهْلِ الفَقرِ والصَّبرِ، وبيَّن ما لَهم مِن مَكانةٍ عِندَه سُبحانَه وتَعالَى وما يَنتظِرُهم مِن تَيسيرٍ في مَوقفِ الحِسابِ والمُجازاةِ لَهم لِصَبرِهم بالسَّبْقِ بدُخولِ الجَنَّةِ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ خالدُ بنُ عُمَيرٍ العَدَويُّ أنَّ الصَّحابيَّ عُتْبةَ بنَ غَزْوانَ رَضيَ اللهُ عنه، خَطَبَهم «فحَمِد اللهَ وأثْنَى عليه» بما هو أهلُه ووَصَفه بصِفاتِ الكمالِ، ثُمَّ قال: «أمَّا بَعدُ» أتَى بها اقتداءً به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقدْ كان يَأتي بها في خُطَبِه لِيَفصِلَ بها بيْنَ مُقدِّمةِ الخُطبةِ ومَوضوعِها، وهي كَلمةٌ يُفصَلُ بها بيْنَ الكلامينِ عندَ إرادةِ الانتقالِ مِن كَلامٍ إلى غيرِه، ثمَّ جَعَل رَضيَ اللهُ عنه يَعِظُهم ويُذكِّرُهم بالآخرةِ، فقال: «فإنَّ الدُّنيا قد آذَنَتْ»، أي: أعلَمَتْ وأشْعَرَتْ، «بِصرْمٍ»، أي: بذَهابٍ وانقطاعٍ بتَقلُّباتِها على أهلِها، «ووَلَّتْ حَذَّاءَ»، أي: أدْبَرَت وذَهَبَت مُسرِعةَ الانقطاعِ، «ولم يَبْقَ منها إلَّا صُبابَةٌ»، وهي البقيَّةُ اليَسِيرةُ مِن الشَّرابِ تَبقَى في أسفلِ الإناءِ «يَتصابُّها صاحبُها» فيُحاوِلُ أنْ يَشرَبَها، «وإنَّكم مُنتقِلون» مِن هذه الدُّنيا الفانيةِ؛ إذ هي دارُ ارتِحالٍ وانتِقالٍ «إلى دارٍ لا زَوَالَ لها» ولا ارتِحالَ عنها، وهي دارُ الآخرةِ، «فانتقِلوا» مِن الدُّنيا إلى الآخرةِ «بخيرِ ما بِحَضْرَتِكُم»، وذلك بكَسْبِ صالِحِ الأعمالِ وادِّخار الحَسناتِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ «فإنَّه قد ذُكر لنا» يُشيرُ بذلك إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أنَّ الحَجَر يُلقَى مِن شَفَةِ جَهنَّمَ»، أي: مِن طَرَفِها «فيَهوِي»، أي: يَظَلُّ يَنزِلُ ويَسقُطُ فيها قَدْرَ سبعينَ عامًا ولا يَصِلُ إلى آخِرِ ما بداخلِها وعُمقِها، «وواللهِ لَتُمْلَأَنَّ» جَهَنَّمُ مِن الإنسِّ والجِنِّ، «أفَعجِبْتم؟» مِن هذا الأمرِ الدَّالِّ على عِظَمِ قُدرةِ اللهِ سُبحانه وكَمالِ جلالِه وقوَّة انتِقامِه، فلا تَعجَبوا مِن هذا؛ فإنَّه لا بُدَّ مِن وُقوعِه، «ولقدْ ذُكِر لنا أنَّ ما بينَ مِصْراعَيْنِ من مَصارِيعِ الجنَّةِ»، أي: أنَّ المسافةَ ما بينَ طَرَفَيْ بابٍ من أبوابِها «مسيرةَ أربعين سَنَةً، ولَيَأْتِيَنَّ عليها»، أي: الجنَّةِ وعلى تلك المَصاريعِ «يومٌ» هو وقتُ دُخولِها، ويكونُ هذا المِصْراعُ مُكتظًّا ومُمْتَلِئًا بالنَّاسِ الَّذين يَدخُلون منه «مِنَ الزِّحامِ»، وهذا دَليلٌ على كَثرةِ مَن سيُدخِلُهم اللهُ الجنَّةَ برَحمتِه، ثمَّ أقسَمَ قائلًا: «ولقدْ رأيتُني سابعَ سبعةٍ»، أي: واحدًا مِن سَبعةٍ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «ما لنا طعامٌ إلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ» وأكَلْنا منه «حتَّى تقرَّحَتْ» تجرَّحت «أشداقُنا» جمعُ شِدْقٍ، وهو جانب الفَمِ، «فالْتَقَطْتُ بُرْدَةً»، أي: عَثَرْتُ على كِساءٍ من غير قَصْد وطلب «فشَقَقْتُها بيني وبينَ سَعْدِ بنِ مَالِكٍ» هو ابنُ أبي وَقَّاصٍ، أحدُ العَشَرة المبشَّرِين بالجنَّةِ، «فاتَّزَرْتُ بنِصفها واتَّزَرَ سَعْدٌ بنِصفها» أي: سَتَر كلُّ واحدٍ منهما بها نِصفَ جَسدِه ومَوضِعَ عَورتِه، وهذا بيانٌ لِما كانوا عليه مِن شِدَّةِ الفقرِ، وصَبرِهم مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى نَشَر اللهُ الدِّينَ وفَتَح عليهم الفُتوحَ، «فما أصبَح اليومَ مِنَّا أحدٌ إلَّا أصبَح أميرًا على مِصْرٍ من الأمصارِ»، أي: بَلدٍ مِن البلدانِ الَّتي فُتِحَت، فأصبَح عُتْبَةُ أميرًا على البَصْرَةِ، وسَعْدٌ أميرًا على الكُوفَةِ، «وإنِّي أَعُوذُ باللهِ»، أي: اعتصِمُ وأتحَصَّنُ باللهِ سُبحانه مِن «أنْ أكونَ في نفْسي عظيمًا» بأنْ يُوهِمَني الشَّيطانُ والنَّفْسُ أنِّي رَفيعُ المنزلةِ، وأكونَ «عندَ اللهِ صَغِيرًا» خَسيسًا، حَقيرَ المنزلةِ بسَببِ عَدمِ التَّقوى والأعمالِ الصَّالحةِ، فلا يُقبَلُ علَيَّ بالفضلِ والإحسانِ، ولا يُنصَبُ لعَمَلي وَزنٌ إذا نُصِب الميزانُ، «وإنَّها لم تكُنْ نُبوَّةٌ قَطُّ» في زمَنٍ مِن الأزمانِ الماضيةِ، «إلَّا تَناسَخَتْ» أي: ارتفَعَت، وزالَتْ، وانْمَحَتْ «حتَّى يكونَ آخرُ عاقِبتِها مُلكًا» فيَبعُدون عن سُننِ النَّبيِّين وخُلفائهِم إلى الإقبالِ على الدُّنيا واتِّباعِ الهَوى، وهذه أحوالُ أكثرِ الملوكِ، «فسَتخبُرون وتُجرِّبون الأُمَراءَ بعدَنا» حتَّى تَجِدوهم مِصداقًا لِما قالهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أحوالِهم وشُؤونِهم، وهذا يعني: أنَّ زَمانَ النُّبوَّةِ يكونُ النَّاسُ فيه يَعمَلون بالشَّرعِ، ويَقومونَ بالحقِّ، ويَزهَدون في الدُّنيا، ويَرغَبون في الآخرةِ، ثمَّ إنَّه بعْدَ مَوتِهم يَنعكِسُ الأمرُ، ثمَّ لا يَزالُ الأمرُ في تَناقُصٍ وإدبارٍ إلى ألَّا يَبْقى على الأرضِ مَن يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهذا هو المعبَّرُ عنه هنا بالتَّناسُخِ
وفي الحديثِ: أنَّ مِن فِعل الصَّحابةِ في أوَّلِ الخُطبة: حَمْدَ الله والثناءَ عليه
وفيه: فضلُ الله عزَّ وجلَّ ورحمتُه بعبادِه الموحِّدين
وفيه: إخبارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الغَيْبِيَّاتِ
وفيه: إشارةٌ إلى اتِّساع الحالِ على الصَّحابةِ بعدَ ضِيقِه أولًا