باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه1
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: «ألك بينة؟»، قال: لا، قال: «فلك يمينه؟»، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: «ليس لك منه إلا ذلك»، قال: فانطلق الرجل ليحلف له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: «لئن حلف على مالك ليأكله ظلما، ليلقين الله وهو عنه معرض» وفي الباب عن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، والأشعث بن قيس: حديث وائل بن حجر حديث حسن صحيح
أقامَ الشَّرعُ العَلاقةَ بين النَّاسِ على أساسٍ مِنَ الأمانَةِ وعدَمِ الخيانةِ؛ وذلك أنَّ المُسلِمَ أمينٌ على حُقوقِه وحُقوقِ غيرِه، ولكنَّ بَعضَ النَّاسِ قد يَخُونونَ ويَحلِفُون بالأيمانِ المغَلَّظةِ على ما ليس من حقِّهم، وخاصَّةً إذا كانتِ البيِّنَةُ غيرَ واضحةٍ عندَ صاحِبِ الحقِّ الأصليِّ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ وائلُ بنُ حُجرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه جاءَ رجلٌ من حَضرَمَوتَ -وهي بلدةٌ من بلادِ اليَمنِ بقُربِ عَدنٍ- ورجُلٌ من كِندَةَ -وهي قبيلةُ كِندةَ العَرَبيَّةُ، وكانت باليَمنِ-، جاءَ الاثنانِ يَختَصِمانِ إلَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليَحكُمَ بينهما فيما وقَعَ بينهما من نزاعٍ على مِلكيَّةِ أرضٍ، فأخبَرَ الحَضرميُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجلَ الكِنديَّ استولَى على أرضٍ له، وأخذَها غَصبًا، وهي مَورُوثَةٌ له عن أبيه، فقالَ الكِنديُّ: «هي أرضِي، في يَدي، أي: هي في مِلكِي وتَصرُّفي، وأنا الذي أزرَعُها وأعمَلُ عليها، فسألَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَضْرميَّ عن دَليلٍ وإثباتٍ على مِلكيَّتِه للأرضِ، مِثلِ الشُّهودِ، فنَفى الحَضْرميُّ البيِّنةَ، فقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فلَك يَمِينُهُ»، أي: فلَكَ مِنَ الكِنديِّ أن يَحلِفَ أنَّها مِلكُه، وليست مِلكَكَ، فقالَ الحَضرميُّ: «يا رسولَ اللهِ، إنَّ الرَّجُلَ فاجِرٌ لا يُبالِي على ما حَلَفَ عليه، وليْس يَتوَرَّعُ من شَيءٍ»، يُشيرُ إلى سُهولةِ الحَلِفِ عندَ الرَّجُلِ الآخَرِ، وأنَّه لن يَردَعَه ويَمنَعَه شَيءٌ في أن يَحلِفَ ليَأخُذَها، حتَّى ولم تَكُن مِلكَه، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرَّجلَ الحَضرميَّ أنَّه ليس له من خَلاصٍ إلَّا أن يَحلِفَ الرَّجلُ الكِنديُّ أنَّها مِلكُه وليست مِلكَ الحَضرميِّ، أو تَكُونُ للحَضرميِّ بيِّنةٌ يُثبِتُ بها حقَّه، فتَهيَّأ الكِنديُّ ليَحلِفَ على أنَّ الأرضَ له وليست للحَضرميِّ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا ولَّى الكِنديُّ ليَحلِفَ على مالِ الحَضرميِّ: «أمَا لَئِنْ حَلَفَ على مالِه»، أي: لئن حلَفَ الكِنديُّ على مالِ الحَضرميِّ؛ «ليَأكُلَه ظُلمًا» ويَأخُذَه دُونَ وَجه حقٍّ وهو يَعلَمُ أنَّه مالُ أخيه وليس مالَ نفسِه، «ليَلْقَيَنَّ اللهَ وهو عنه مُعرِضٌ»، أي: فسَوفَ يُقابِلُ اللهَ بعدَ مَوتِه، أو يومَ القيامةِ، ويُعرِضُ اللهُ تَعالَى عنه ويَسخَطُ عليه، وفي روايةٍ لمُسلِمٍ: «لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضْبانُ»، وهذا تَرهيبٌ شَديدٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حتَّى لا يَتجَرَّأَ أحَدٌ على اغتِصابِ حُقوقِ النَّاسِ، ثُمَّ يُقاتِلَ عليها، ثُمَّ يَطلُبَ الحَلِفَ واليَمينَ أنَّها له، ويَستحِلَّها بذلك؛ فإنَّه بذلك يكونُ قد أوقَعَ نفسَه في الحَرَام المؤدِّي إلى الطَّردِ من رَحمَةِ اللهِ، وقد جاءَ في حديثِ الأشعثِ بنِ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه عندَ أبي داودَ أنَّ الرَّجلَ الكِنديَّ لمَّا تَهيَّأ لليَمينِ، وحذَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالوَعيدِ المَذكورِ، رَجَعَ وقالَ: «هي أرضُه».
وإنَّما كَبُرَت هذه المَعصيةُ؛ لأنَّ هذه اليمينَ تَكونُ غَموسًا، وهي مِنَ الكبائرِ التي شدَّدَ فيها الشَّرعُ، لأنَّ الأحكامَ تَقومُ على الظَّاهرِ منَ البيِّناتِ والأيمانِ وإن كانَ المَحكومُ له في نفسِ الأمرِ مُبطِلًا.
وفي الحَديثِ: تحذيرٌ شديدٌ مِنَ الحَلِفِ باللهِ كَذِبًا، خاصَّةً إذا كانَ الحَلِفُ على حَقٍّ ليس له وقدِ اقتَطَعَه من غيرِه.
وفيه: أنَّ القضاءَ يَكونُ بما ظَهَرَ منَ الأدلَّةِ والبيِّناتِ، وليسَ بالادِّعاءِ.
وفيه: وَعظُ الحاكِمِ الحالِفَ، عساه أن يَكُونَ يَحلِفُ باطِلًا، فيَرُدَّه وعظُه إلى الحقِّ.
وفيه: دليلٌ على أنَّ الخصمَ الصَّالِحَ والطَّالِحَ في سيرةِ الحُكمِ سواءٌ بمُطالَبةِ الطَّالِبِ بالبيِّنةِ، والمطلوبِ باليَمينِ.