باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم5
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شيبان أبو معاوية قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر»؟ فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال: «ما جاء بك يا عمر»؟ قال: الجوع يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري» وكان رجلا كثير النخل والشاء ولم يكن له خدم فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطا، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلا تنقيت لنا من رطبه»؟ فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا، أو قال: تخيروا من رطبه وبسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد»، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحن ذات در»، قال: فذبح لهم عناقا أو جديا فأتاهم بها فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك خادم»؟ قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فأتنا» فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اختر منهما»، فقال: يا نبي الله اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوص به معروفا»، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي»: «هذا حديث حسن صحيح غريب»
كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعيشُ حياةَ الزَّاهِدينَ في الدُّنْيا، وكان يُنفِقُ كُلَّ ما آتاهُ اللهُ من مالٍ في سَبيلِ الحقِّ، وعلى الفُقَراءِ والمحتاجين، وكان الصَّحابةُ على شاكِلَتِهِ، وفي هذا الحديثِ بيانٌ لموقِفٍ من حَياتِهِ فيه من الحِكَمِ والمواعِظِ حيث يَرْوي أبو هُريْرةَ رضِيَ اللهُ عنه فيقولُ: "خَرَجَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ساعَةٍ لا يَخْرُجُ فيها ولا يَلْقاهُ فيها أحَدٌ"، أي: ليس من عادَتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخُروجُ والظُّهورُ في ذلك الوقْتِ، "فأتاهُ أبو بَكْرٍ، فقال: ما جاءَ بكَ يا أبا بَكْرٍ؟ فقال: خَرَجْتُ ألْقَى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَنْظُرُ في وَجْهِهِ والتَّسليمَ عليه"، أي: وكان خُروجُ أبي بَكْرٍ رضِيَ اللهُ عنه رَغْبَةً في لِقاءِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، "فلمْ يَلْبَثْ"، أي: لم يَمُرَّ وقْتٌ كثيرٌ، "أنْ جاءَ عُمَرُ، فقال: ما جاءَ بكَ يا عُمَرُ؟ قال: الجُوعُ يا رسولَ اللهِ"، أي: كان السَّبَبُ لخُروجِ عُمَرَ طَلَبَ الطَّعامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "وأنا قد وَجَدْتُ بعضَ ذلك"، أي: أنَّ سَبَبَ خُروجِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك الوقْتِ كان الجُوعُ، "فانْطَلَقوا إلى مَنْزِلِ أبي الهَيْثَمِ بْنِ التَيْهَانِ الأنْصارِيِّ -وكان رَجُلًا كثيرَ النَّخْلِ والشَّاءِ-"؛ وذلك مَظِنَّةُ أنْ يُطْعِمَهم ويَسُدَّ جُوعَهم، "ولم يكُنْ له خَدَمٌ فلم يَجِدُوهُ"، وهذا إشارةٌ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَجِدْ في المَنْزِلِ إلَّا امرأتَهُ لِيَسْأَلَ عنه، "فقالوا لامْرَأَتِهِ: أين صاحِبُكِ؟"، أي: زَوْجُكِ، "فقالت: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لنا الماءَ"، أي: يأْتي بماءٍ عذْبٍ، وهو الطَّيِّبُ الذي لا مُلوحَةَ فيه، "فلمْ يَلْبَثوا أنْ جاءَ أبو الهَيْثَمِ بقِرْبَةٍ يَزْعَبُها"، أي: يَتَدافَعُ بها ويَحْمِلُها لثِقَلِها، "فوَضَعَها"، أي: القِرْبَةَ، "ثم جاءَ يَلْتَزِمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: يُسلِّمُ عليه ويَضُمُّه إليه ويُعانِقُهُ؛ وذلك من حُبِّهِ الشَّديدِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، "وَيَفْدِيهِ بأَبيهِ وأُمِّهِ"، أي: يقول له: فِدَاكَ أَبِّي وأُمِّي، "ثم انْطَلَقَ بهم"، أي: بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيْهِ، "إِلَى حَديقَتِهِ"، أي: أرْضِهِ وبُسْتانِهِ، "فبَسَطَ لهم بِساطًا"، أي: فَرْشًا ليَجْلِسوا عليه، "ثم انْطَلَقَ"، أي: أبو الهَيْثَمِ، "إلى نَخْلَةٍ؛ فجاءَ بِقِنْوٍ فوَضَعَهُ"، أي: للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَنْ مَعَهُ، والقِنْوُ: غُصْنُ النَّخيلِ بما يَحْمِلُهُ من تَمْرٍ، "فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلا تَنَقَّيْتَ لنا من رُطَبِهِ؟"، أي: الذي طابَ واسْتَوَى، "فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أرَدْتُ أنْ تَخْتارُوا -أو قال: تَخَيَّروا من رُطَبِهِ وبُسْرِهِ-"، والبُسْرُ: البَلَحُ قبلَ أنْ يتحوَّلَ رُطَبًا، "فأَكَلوا وشَرِبوا من ذلك الماءِ"، أي: الماءِ العَذْبِ الذي قد جاءَ به أبو الهَيْثَمِ، "فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا والذي نَفْسي بِيَدِهِ"، أي: قاسِمًا باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأنَّ اللهَ هو الذي يَمْلِكُ الأَنْفُسَ، وكثيرًا ما كان يُقسِمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا القَسَمِ، "مِنَ النَّعيمِ الذي تُسْأَلونَ عنه يوْمَ القِيامَةِ، ظِلٌّ بارِدٌ"، أي: لا حَرَّ فيه "ورُطَبٌ طيِّبٌ"، أي: تَمْرٌ حُلْوٌ قد نَضُجَ "ومَاءٌ بارِدٌ"، والمعنى: أنَّ كلَّ شيءٍ من لذَّةِ الدُّنيا من النَّعيمِ الذي يُسْأَلُ عنه، والسُّؤالُ عنه يكونُ: هل يَقومُ العبْدُ بحَقِّ شُكْرِهِ ومِنَّةِ اللهِ عليه فيه بنِعْمَتِه؟، "فانْطَلَقَ أبو الهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لهم طَعامًا، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَذْبَحَنَّ ذاتَ دَرٍّ"، أي: أرادَ أبو الهَيْثَمِ أنْ يَذْبَحَ لهم شاةً، فنَهاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التي تَدِرُّ اللَّبَنَ، "فذَبَحَ لهم عَناقًا أو جَدْيًا"، والعَناقُ: الأُنْثَى من أوْلادِ المَعْزِ والجَدْيُ ذَكَرُها، "فأَتاهُم بها فأَكَلوا، "فقالَ النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل لَكَ خادِمٌ؟ قال: لا، قال: فإذا أَتانا سَبْيٌ فَأْتِنَا"، والسَّبْيُ: أَسَارَى الحَرْبِ، وقد أرادَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُعْطِيَهُ خادِمًا، "فأُتِيَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَأْسَيْنِ ليس معَهُما ثالِثٌ"، أي: مِنَ العَبيدِ، "فأَتاهُ أبو الهَيْثَمِ"، أي: كما أَمَرَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُعْطِيَهُ أحَدَهُم، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اخْتَرْ منهما"، أي: خُذْ ما يُعْجِبُكَ منَ العَبْدَيْنِ، فقال أبو الهَيْثَمِ: "يا نبيَّ اللهِ، اخْتَرْ لي"، أي: أنَّه فوَّض النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُرجِّحَ له أحْسَنَهُما، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ المُسْتَشارَ " وهو الذي يُطلَبُ منه الرَّأْيُ في الحادِثَةِ "مُؤْتَمَنٌ"، أي: إنَّ المستشارَ أَمينٌ فيما يُسْأَلُ من الأُمورِ، فلا يَنْبغي أنْ يَخونَ المستشيرَ بكِتْمانِ مَصْلَحَتِهِ، ويَبْلُغَ فيه النَّصيحةَ، فعليْهِ أنْ يتَحَرَّى له وجْهَ الصَّوابِ، ولا يُشيرُ عليه إلَّا بما يَفْعَلُهُ لنَفْسِهِ، لو كانت الحادثةُ معه ثم يَحْفَظُ سِرَّهُ وما أخْبَرَهُ به، وإنْ لم يَجِدْ رَأْيًا فلا يَتَكَلَّفُ ما لا يَعْرِفُ صَوابَهُ، وعليه أنْ يتحرَّى الرُّشدَ في نَصيحتِه؛ فقد حذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم مِن الخِيانةِ في النَّصيحةِ كما في للحَديثِ الذي رواه أبو داودَ: «ومَن أشارَ على أخيه بأمْرٍ يَعلَمُ أنَّ الرُّشدَ في غيرِه فقد خانَه».
ثم قال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "خُذْ هذا"، أي: أشارَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أحَدِ العبْدَيْنِ، "فإنِّي رَأَيْتُهُ، يُصَلِّي"، أي: أنَّ سببَ تَرْجيحِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له لما رَآهُ عليه من عَلاماتِ الصَّلاحِ، "واسْتَوْصِ به مَعْروفًا"، وأوْصَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا الهَيْثَمِ في العَبْدِ في حُسْنِ مِلْكَتِهِ له، فلا يشُقُّ عليه من الأعْمالِ ما لا يُطيقُ وغيرِ ذلك من الأعْمالِ التي يتَحَقَّقُ بها عَمَلُ المعْروفِ حتى وإنْ كان الذي يَعْمَلُ فيه المعروفَ خادِمًا، قال أبو هُريْرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فانْطَلَقَ أبو الهَيْثَمِ إلى امْرَأَتِهِ؛ فأخْبَرَها بقَوْلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: عن وَصيَّتِهِ في الخادِمِ، "فقالتْ امْرَأَتُهُ: ما أنْتَ ببالِغٍ ما قال فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا أنْ تُعْتِقَه"، أي: إنَّ مِنْ أفْضَلِ المعْروفِ للعَبْدِ والخادِمِ هو عِتْقُهُ من العُبودِيَّةِ ليكونَ حُرًّا، قال أبو الهَيْثَمِ: "فهو عَتيقٌ"، أي: أجابَ امْرَأَتَهُ في نُصْحِها له، وأعْتَقَ العَبْدَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ اللهَ لم يَبْعَثْ نَبِيًّا ولا خَليفَةً إلَّا وله ِبطانَتانِ"، بِطانَةُ الرَّجُلِ: صاحِبُ سِرِّهِ الذي يُشاوِرُه في أحْوالِهِ، "بِطانَةٌ تَأْمُرُهُ بالمعْروفِ وتنَهاهُ عن المُنْكَرِ"، أي: بالخَيْرِ، "وبِطانَةٌ لا تَأْلوهُ خَبالًا"، أي: لا تُقصِّرُ في إفْسادِ أحْوالِهِ، "ومَنْ يُوقَ"، أي: حَمَى نفْسَهُ مِن، "بِطانَةَ السُّوءِ، فقد وُقِيَ"، أي: حُفِظَ من كلِّ بَلاءٍ؛ وذلك أنَّه قد أعْطى الفُرْصَةَ لبِطانَةِ الخيرِ أنْ تُرشِدَهُ لعَمَلِ المعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَرِ.
وفي الحديثِ: أنَّ مِن هدْيِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّعيَ إذا اشْتَدَّتِ الضَّرورةُ.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذِكْرَ الإنْسانِ ما نالَه مِن أَلَمٍ أو جُوعٍ ونحوِهِ، لا على التَّشكِّي وعَدَمِ الرِّضَا.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إكْرامَ الضَّيفِ