حديث أبي موسى الأشعري 89
مستند احمد
حدثنا عفان، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، أخبرنا عاصم، عن أبي بردة، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرسه أصحابه، فقمت ذات ليلة، فلم أره في منامه، فأخذني ما قدم وما حدث، فذهبت أنظر، فإذا أنا بمعاذ قد لقي الذي لقيت فسمعنا صوتا مثل هزيز الرحا فوقفا على مكانهما، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الصوت فقال: «هل تدرون أين كنت؟ وفيم كنت؟» أتاني آت من ربي عز وجل، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ". فقالا: يا رسول الله، ادع الله عز وجل أن يجعلنا في شفاعتك. فقال: «أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئا في شفاعتي»
أعطى اللهُ سُبحانَه نَبيَّه مُحمَّدًا فَضلًا عَظيمًا، وكَرَّمَه وفَضَّلَه على سائِرِ الأنبياءِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وقد نالَتْ أُمَّتُه مِن ذلك الفَضلِ الشَّفاعةَ في الآخِرةِ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عَوفُ بنُ مالِكٍ الأشجَعيُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه خَرَجَ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ ومعه أصحابُه رَضيَ اللهُ عنهم، "فسارَ بهم يَومَهم أجمَعَ، لا يَحِلُّ لهم عُقدةً، ولَيلَتَه جَمعاءَ، لا يَحِلُّ عُقدةً، إلَّا لِصَلاةٍ"، والمَعنى: أنَّه كان جادًّا ومُسرِعًا في السَّيرِ، وعازِمًا عليه؛ فلا يَنزِلُ عنِ الدَّابَّةِ لِيَعقِلَها ويَربِطَها لِيَستَريحَ، حتى إنَّه لا يَحتاجُ إلى حَلِّ عُقدةِ عِقالِها؛ لِأنَّها لم تُعقَلْ، ولم تُربَطْ أصلًا، وهذا كُلُّه دَليلٌ على مُواصَلةِ السَّيرِ دُونَ انقِطاعٍ ولا نُزولٍ إلَّا لِلصَّلاةِ. "حتى نَزَلَ بهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنتَصَفَ اللَّيلِ لِلرَّاحةِ والمَبيتِ، فجَعَلَ رَجُلٌ منهم يَرقُبُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَحرُسُه حين وَضَعَ مَتاعَه لِلنَّومِ، فأخبَرَ عَوفٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه ذَهَبَ لِيَنظُرَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن حَولَه، فلم أرَ أحَدًا إلَّا نائِمًا، ولا بَعيرًا، وهو الجَمَلُ الذي يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ، "إلَّا واضِعًا جِرانَه نائِمًا" وجِرانُ البَعيرِ، بالكَسرِ: مُقَدَّمُ عُنُقِه مِن مَذبَحِه إلى مَنحَرِه، قال عَوفٌ رَضيَ اللهُ عنه: "فتَطاوَلتُ فنَظَرتُ حيث وَضَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَحْلَه" يَتأكَّدُ مِن وُجودِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَوضِعِه ومَنامِه، فلم أرَه في مَكانِه، فخَرَجَ يَتخَطَّى الأمتِعةَ ومَن معه مِن أصحابِه، ثم مَشى في ظُلمةِ اللَّيلِ، كُلَّ هذا يَبحَثُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسَمِعَ جَرَسًا، فاتَّجَه لِهذا الصَّوتِ، فوَجَدَ في طَريقِه مُعاذَ بنَ جَبَلٍ وأبا موسى الأشعَريَّ رَضيَ اللهُ عنهما، وكانا قد خَرَجَا بَحثًا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما في رِوايةٍ لِأحمدَ، فوَقَفَ عِندَهما يَسألُهما عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا به يَسمَعُ صَوتَ هَزيزٍ كهَزيزِ الرَّحى، والرَّحى هي أداةٌ مُستَديرةٌ، ذاتُ طَبَقتَيْنِ مِنَ الحِجارةِ، وتُوضَعُ الحُبوبُ بَينَ الحَجَرَيْنِ وتُدارُ فتَطحَنُ الحُبوبَ؛ لِتَصيرَ دَقيقًا، وهَزيزُ الرَّحى هو صَوتُ الحَجَرَيْنِ عِندَ دَوَرانِهما لِطَحنِ الحَبِّ، فظَنَّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جانِبِ هذا الصَّوتِ، فأمَرَه مُعاذٌ وأبو موسى رَضيَ اللهُ عنهما بالجُلوسِ والسُّكوتِ، حتى إذا مضى بَعضُ الوَقتِ أقبَلَ عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقد قاموا إليه، وسألهم عن سَبَبِ خُروجِهم، فأخبَروه عنِ السَّبَبِ، وهو تَركُه لهم وخَوفُهم عليه مِن أنْ يُصيبَه شَيءٌ، فخَرَجوا لِلبَحثِ عنه مُتَتَبِّعينَ أثَرَه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّه أتاني آتٍ مِن رَبِّي" وفي رِوايةٍ لِأحمَدَ: "أتاني آتٍ في مَنامي"، وهي صُورةٌ مِن صُوَرِ الوَحْيِ التي كانت تأتي النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجَعَلَ الخِيَرةَ والاختيارَ إلَيَّ في أنْ يَدخُلَ نِصفُ أُمَّتي الجَنَّةَ، والمُرادُ بهم: مِنَ الذين يَستَحِقُّونَ العَذابَ؛ إذِ الذين لا يَستَحِقُّونَه داخِلونَ الجَنَّةَ، وسَكَتَ عنِ النِّصفِ الثَّاني؛ فقيلَ: إنَّهم يُعَذَّبونَ ولا شَفاعةَ لهم، ويَحتَمِلُ أنَّهم مَوكُولونَ إلى رَحمةِ اللهِ وعَفوِه، وإنَّما سِيقَ الحَديثُ لِإفادةِ تَخييرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَينَ أنْ يُدخِلَ اللهُ الجَنَّةَ نِصفَ أُمَّتِه، ولا تَبْقى له شَفاعةٌ، وبَينَ الشَّفاعةِ، وشَفاعَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَكونُ لِلمُذْنِبينَ مِنَ المُوَحِّدينَ، أو في إدخالِ الجَنَّةِ مِن غَيرِ حِسابٍ، أو رَفعِ الدَّرَجاتِ يَومَ القيامةِ، كُلٌّ بحَسَبِ حالِه. فاختارَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهمُ الشَّفاعةَ، وهذا دَليلٌ على أنَّها أوسَعُ في شُمولِها مِنَ النِّصفِ، وأنَّها تَشمَلُ أُمَّةَ الإجابةِ أجمَعينَ، فقُلْنا: "نُذَكِّرُكَ اللهَ والصُّحبةَ إلَّا جَعَلتَنا مِن أهلِ شَفاعَتِكَ"، أي: نَكونُ مِمَّن تَشفَعُ فيهم، فبَشَّرَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّهم منهم، فلَمَّا عَلِمَ الناسُ هذا الأمْرَ مِن عَوفِ بنِ مالِكٍ ذَهَبوا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "فأضَبُّوا عليه" حتى كَثُرَ عليه الناسُ وازدَحَموا، وهم يَتكَلَّمونَ جَميعًا يَطلُبونَ منه أنْ يَكونوا مِن أهلِ الشَّفاعةِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فإنِّي أُشهِدُكم أنَّها لِمَن ماتَ مِن أُمَّتي لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا" والمَعنى: أنَّ شَفاعَتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَشمَلُ أهلَ التَّوحيدِ إلى يَومِ القيامةِ، وهذه الشَّفاعةُ التي خُيِّرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها غَيرُ الشَّفاعةِ العُظمى في فَصلِ القَضاءِ بَينَ العِبادِ
وفي الحَديثِ: بَيانُ كَرامةِ النبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على اللهِ
وفيه: بَيانُ فَضلِ اللهِ على أُمَّةِ الإسلامِ
وفيه: الحَثُّ على الثَّباتِ على الإسلامِ والإيمانِ؛ لِنَوالِ الشَّفاعةِ
وفيه: فَضلُ التَّوحيدِ