مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه75
حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: " كان أبو طلحة لا يكثر (3) الصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفطر إلا في سفر، أو مرض " (1)
كان الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم يُحِبُّون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حبًّا جمًّا، وكان أشدَّ يومٍ عليهم يومَ موتِه وفِراقِه، وهذا حالُ أيِّ مُحِبٍّ مع مَحبوِبه، فقُربُه يَسُرُّه وبُعدُه يَسوءُه، وفي هذا الحديثِ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضِي اللهُ عَنه: "لَمَّا كان اليومُ الَّذي دخَل فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم المدينةَ"، أي: يومَ هِجْرتِه إليها، "أضاء منها كلُّ شيءٍ"، أي: أشرَقَت المدينةُ بالخيرِ والبرَكةِ، وهذا بيانٌ لسُرورِه وعِظَمِ فرَحِه بمَقْدَمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عليهم وبَقائِه فيهم، "فلمَّا كان اليومُ الَّذي مات فيه أظلَم مِنها كلُّ شيءٍ"، أي: طُمِس عنها نورُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وهذا كنايةٌ عن عظيمِ حُزنِه وغمِّه بفَقدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
قال أنسٌ رَضِي اللهُ عَنه: "ونَفَضْنا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الأيدِيَ"، أي: نظَّفناها ممَّا أصابَها مِن التُّرابِ بتَحْريكِ وضرْبِ اليدين بعضِهما بِبَعضٍ، "وإنَّا لفي دَفنِه حتَّى أنكَرْنا قُلوبَنا"، أي: وما نُفوسُنا وقلوبُنا في حالِ دفْنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حتَّى تغيَّرَت عمَّا كانت عليه ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حيٌّ فيهم؛ فأصبَحَت القلوبُ لم تَجِدْ مثلَ ما كانت تَجِدُه مِن الأنوارِ والصَّفاءِ والرِّقَّةِ والأُلفَةِ؛ لِمَا انقَطَع عليهم مِن الوحيِ وفِقْدانِ ما كان يَحُفُّهم به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن التَّأييدِ والتَّعليمِ، وليس المرادُ: أنَّها تغيَّرَتْ عن الهدايةِ والصِّدقِ؛ فوجودُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الدُّنيا كان نُورًا وهدايةً، وقاطعًا لكلِّ نِزاعٍ، وكان الوحيُ يَنزِلُ عليه من رَبِّه، وبموتِه انقطَع الوحيُ وبقِيَ للمُسلِمينَ اجتهادُهم فيما جاءَ به، بين مُصيبٍ ومُخطئ..