مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 803

مسند احمد

مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 803

 

بعْدَ أنْ أكرَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ نَبيَّه بفَتحِ مكَّةَ في العامِ الثَّامنِ مِن الهجرةِ، بَلَغَهم أنَّ مالكَ بنَ عَوفٍ النَّضريَّ جمَعَ القبائلَ الكافرةَ مِن هَوازن وثَقيفَ وتَجمَّعوا في وادي حُنَينٍ لمُحارَبةِ المسْلِمين، فنَدَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه وجَيْشَه للتَّحرُّكِ نحْوَ تَجمُّعاتِهم في حُنَينٍ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ العبَّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه شَهِد مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غزوة حُنَينٍ، وهو وادٍ بيْن مكَّةَ والطَّائفِ وراءَ عرَفاتٍ، وظلَّ هو وأبو سُفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ ابنُ عمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأخوهُ مِن الرَّضاعةِ، مُلازِمَينِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلَمْ يُفارِقاهُ ولم يَبعُدَا عنه أثناءَ الحربِ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَركَبُ على بَغلةٍ له بيضاءَ، كان قد أهداها له فَرْوةُ بنُ نُفَاثَةَ أو نُعَامَةَ- الجُذَامِيُّ، وكان تابعًا وأميرًا للرُّومِ على مَن يَلِيهم مِن العربِ، وكان مَنزِلُه مُعانَ وما حوْلَها مِن أرضِ الشَّامِ، وهي اليومَ في الأُردنِّ، أسْلَمَ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبَعَث إليه بإسلامِه
فلمَّا بَدَأت المعركةُ والْتَقى المُسلِمون والكفَّارُ، ووقَع القتالُ الشَّديدُ فيما بينهم، ولَّى بعضُ المُسلِمين مِن المُشركين مُدْبِرين، وفي رِوايةٍ في الصَّحيحينِ مِن حَديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «خَرَج شُبَّانُ أصحابِه، وأخِفَّاؤهم حُسَّرًا، ليْس عليهم سِلاحٌ -أو كثيرُ سِلاحٍ-، فلَقُوا قَومًا رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لهم سَهمٌ، جمْعَ هَوازنَ وبَني نَصرٍ، فرَشَقوهم رَشْقًا ما يَكادُون يُخطِئون، فأقْبَلوا هناك إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»
فشرَع صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحرِّكُ برِجلِه بَغْلتَه إلى جِهةِ الكفَّارِ، وكان العبَّاسُ آخِذًا بلِجامِ بَغلتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللِّجامُ هو الحديدةُ الَّتي تُجعَلُ في فَمِ الدَّابَّةِ، وأمسَكَ بها ليَكُفَّها ويَمنَعَها ألَّا تُسرِعَ إلى جانبِ العدوِّ، وكان أبو سُفيانَ بنُ الحارثِ مُمْسِكًا بركابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تأدُّبًا ومحافظةً عليه مِن السُّقوطِ، والرِّكابُ: الحديدةُ الَّتي يَجعَلُ الرَّاكبُ فيها قَدَمَه، وهذه مُبالَغةٌ في الثَّباتِ والشَّجاعةِ والصَّبرِ، ثمَّ نادى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على عَمِّه العبَّاسِ: أيْ عبَّاسُ، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ، وهي الشَّجرةُ الَّتي بايَعوا تحتَها بَيعةَ الرِّضوانِ يومَ الحُديبيَةِ، وكانوا بايَعُوه على ألَّا يَفِرُّوا، فنادَى عبَّاسٌ، وكان رجلًا «صيِّتًا» قويَّ الصَّوتِ، أين أصحابُ السَّمُرةِ؟ أي: لا تنسَوْا بَيعتَكم الواقعةَ تحتَ الشَّجرةِ، فلمَّا سَمِعوا النِّداءَ، تَذكَّروا العهدَ معه، وأقسَمَ العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه فقال: فواللهِ لكأنَّ عَطْفَتَهم -أي: رَجْعَتَهم وعَوْدتَهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حين سَمِعوا صوتي، مِثل عَطْفةِ البقَرِ على أولادِها، تَشبيهٌ منه لشِدَّةِ إسراعِهم وجَرَيانِهم استجابةً لنِدائِه وأثَرِه فيهم، كما تُسرِعُ قَطيعُ البقرِ نحْوَ أولادِها إذا غابتْ عنها، وهذا دَليلٌ على أنَّ فِرارَ المسْلِمين لم يكُنْ بعيدًا، وأنَّه لم يَحصُلِ الفرارُ مِن جَميعِهم، وإنَّما وَقَع هذا ممَّن في قَلبِه مرَضٌ مِن مُسْلِمةِ أهلِ مكَّةَ حَديثًا، ومَن لم يَستقِرَّ الإيمانُ في قَلبِه، وممَّن يَتربَّصُ بالمؤمنينَ الدَّوائرَ
فلمَّا سَمِع المسْلِمون صَوتَ العبَّاسِ، قالوا: «يا لبَّيْكَ يا لبَّيْكَ»، أي: استجابةً بعْدَ استجابةٍ، وسَماعًا بعْدَ سَماعٍ، وكَرَّروا قوْلَهم: «يا لبَّيْكَ» للتَّأكيدِ -أو التَّكثيرِ- على استجابتِهم للنِّداءِ، فاقتَتَلَ المُسلِمون مع الكفَّارِ، ثمَّ تَحوَّلتِ الدَّعوةُ والنِّداءُ في الأنصارِ -وهُم أهلُ المدينةِ- على جِهةِ الخصوصِ، بعْدَما رجَعَ المهاجِرون فقال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، يا معشَرَ الأنصارِ، يَحُثُّهم على المقاتَلةِ، ثمَّ قُصِرَتِ الدَّعوةُ على بني الحارثِ بنِ الخزرجِ، وكانوا قَبيلةً كَبيرةً مِن قَبائلِ الأنصارِ، وكانوا أهلَ شِدَّةٍ وصَبرٍ في الحربِ، فنُودِي: يا بني الحارثِ، ثمَّ كَرَّروا النِّداءَ مِن بعْدِه فيما بيْنهم تَشجيعًا وإعجابًا وإقبالًا على العدوِّ
فنَظَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على بَغلتِه «كالمُتطاوِلِ عليها» أي: كالمشرِفِ والمُتطلِّعِ مِن فَوقِها، وقيل: كالَّذي يمدُّ عُنقَه لِيَنظُرَ إلى ما هو بعيدٌ عنه، مائلًا إلى قتالِهم، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هذا حينَ حَمِيَ الوَطِيسُ»، وفي رِوايةٍ لأحمدَ: «الآنَ حَمِيَ الوَطيسُ»، والوَطيسُ نُقْرةٌ في حَجرٍ تُوقَدُ حوْلَه النَّارِ فيُطبَخُ به اللَّحمُ، أي: هذا الزَّمانُ زمانُ اشتدادِ الحربِ واستعارِها، ثمَّ أخَذ حصَياتٍ فرمى بهنَّ وجوهَ الكفَّارِ، ثمَّ قال تفاؤلًا أو إخبارًا  «انهزموا وربِّ مُحمَّدٍ» أي: أقْسَمْتُ لكم برَبِّ محمَّدٍ إنَّكم انهَزَمْتُم يا مَعاشرَ الكفَّارِ، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ مِن حَديثِ سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «شاهَتِ الوجوهُ»
قال العبَّاسُ: «فذَهَبْتُ أنْظُرُ» إلى الفريقينِ المتقابِلينِ، «فإذا القتالُ» مُستمِرٌّ بيْن الفريقينِ «على هَيئتِه» أي: أنَّه ما زالتِ الحربُ قائمةً دونَ تَبيُّنٍ لمَن النَّصرُ، فيما يَراه العبَّاسُ بعَينِه، ثمَّ أقسَمَ العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه فقال: فواللهِ، ما هو إلَّا أنْ رَماهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحَصَياتِه فانْهَزَموا سَريعًا، فما زِلْتُ أرى بأْسَهم وحِدَّتَهم وسيوفَهم وشِدَّتَهم كليلًا ضعيفًا، وأمرَهم مُدبِرًا، وحالَهم ذليلًا بعْدَ أنْ كانوا مُنتصِرين في أوَّلِ الأمرِ، وفي رِوايةٍ لمسْلمٍ عن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضيَ اللهُ عنه: «فما خَلَق اللهُ منهم إنسانًا إلَّا مَلَأ عَيْنَه تُرابًا مِن تلكَ القَبضةِ»
وفي الحديثِ: شجاعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: بَيانُ فَضلِ الصَّحابيَّينِ الفاضلينِ: العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ، وأبي سُفيانَ بنِ الحارثِ رَضيَ اللهُ عنهما، وقوَّةِ إيمانِهما، وشَجاعتِهما رَضيَ اللهُ عنهما
وفيه: إثباتُ أنَّ النَّصرَ مِن عندِ اللهِ، وأنَّ الكثرةَ العَدَديَّةَ لا تُغْني شيئًا دونَ عَونٍ مِن اللهِ