باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم9-1

سنن الترمذى

باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم9-1

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا جعفر بن عون قال: حدثنا أبو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، قال: فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: نم، فنام، فلما كان عند الصبح، قال له سلمان: قم الآن، فقاما فصليا، فقال: «إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه» فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك، فقال له: «صدق سلمان»: " هذا حديث حسن صحيح، وأبو العميس اسمه: عتبة بن عبد الله، وهو أخو عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي "

لم يَأمُرِ اللهُ سُبحانَه وتعالَى هذه الأُمَّةَ بالانقِطاعِ للعِبادةِ؛ فلا رَهبانِيَّةَ في الإسلامِ كالَّتي ابتدَعَها النَّصارَى في دِينِهم.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أبو جُحَيفةَ وَهْبُ بنُ عبدِ اللهِ السُّوائيُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ آخَى بيْنَ سَلْمَانَ الفارسيِّ وأبي الدَّرْداءِ عُويمِرِ بنِ قَيسٍ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنهما مُؤاخاةَ مُواساةٍ، وليستْ كالتي في أوَّلِ الهِجرةِ التي كانتْ عُقِدَت بيْن المُهاجِرين والأنصارِ لِيَتوارَثوا بها؛ فقدْ نُسِخَت، فَزارَ سَلمانُ الفارسيُّ أبا الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنهما ذاتَ يومٍ، فوجَدَ أُمَّ الدَّرداءِ خَيرةَ بنتَ أبي حَدْردٍ الأسلميَّةَ رَضيَ اللهُ عنها مُتبذِّلَةً، يَعنِي تَلبَسُ ثِيابَ الخِدمةِ وعَمَلِ البيتِ وتَترُكُ التَّزيُّنَ، فسَأَلَها عن سَبَبِ هذه الحالَةِ، فقالتْ له: أخوكَ أبو الدَّرداءِ ليس له حاجَةٌ في الدُّنيا؛ استِحياءً مِن أنْ تُصرِّحَ بعَدَمِ حاجتِه إلى مُباشَرتِها، وكانت هذه الزِّيارةُ وهذا الحوارُ قبْلَ أنْ يُفرَضَ الحِجابُ على المُسلِماتِ، ثُمَّ دَخَلَ أبو الدَّرداءِ فصَنَع لسَلمانَ طَعامًا يَأكُلُه، فقال سَلمانُ لأبي الدَّرداءِ: كُلْ معي، فرَدَّ عليه أبو الدَّرداءِ أنَّه صائمٌ، فقال له سَلمانُ: ما أنا بآكِلٍ مِن طَعامِك شَيئًا حتَّى تَأكُلَ، وغَرَضُه بذلك صَرْفُ أبي الدَّرداءِ عمَّا يَصنَعُه مِن الجَهْدِ في العِبادةِ وغيرِ ذلك ممَّا تَضرَّرت منه أمُّ الدَّرداءِ زَوجتُه، فأَكَلَ معه أبو الدَّرداءِ نُزولًا على رَغبتِه، ثمَّ بات سَلْمانُ عندَ أبي الدَّرداءِ، فلمَّا انْقَضى جُزءٌ مِن اللَّيلِ قام أبو الدَّرداءِ لِيُصَلِّيَ، فأمَرَهُ سَلمانُ أنْ يَنامَ، فنَامَ أبو الدَّرداءِ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقومُ في وقْتٍ آخَرَ، فقال له سَلمانُ: نَمْ، فلمَّا كان مِن آخِرِ اللَّيلِ، قال له سَلمانُ: قُمِ الآنَ، وقام معه سَلمانُ فصَلَّيَا، ثمَّ نَصَحَه سَلمانُ وبيَّن له أنَّ للهِ عليه حَقًّا بالعِبادةِ، ولنفْسِه وجَسَدِه عليه حَقًّا بالرَّاحةِ ونحْوِها، وأنَّ لأهْلِه مِن الزَّوجةِ والأولادِ عليه حقًّا، كحُسْنِ المُعاشَرةِ والتَّربيةِ، وتَعهُّدِهم بما يُصلِحُ حالَ دِينِهم ودُنْياهم، وأرْشَدَه أنْ يُعطِيَ كُلَّ صاحبِ حَقٍّ حَقَّه، ثمَّ أتى أبو الدَّرداءِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَكَرَ له ما قال سَلمانُ رَضيَ اللهُ عنه، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَ سَلمانُ فيما قالَه وما ذَهَب إليه.
وفي الحديثِ: دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ لا يَنْبغي له أنْ يُكلِّفَ نفْسَه بالصِّيامِ والقِيامِ، وإنَّما يُصلِّي ويَقومُ على وَجْهٍ يَحصُلُ به الخيرُ، ويَزولُ به التَّعَبُ والمَشقَّةُ والعَناءُ.
وفيه: مَشروعيَّةُ المُؤاخاةِ في اللهِ، وزِيارةِ الإخوانِ،  والمَبيتِ عندَهم.
وفيه: مُخاطَبةُ الأجنبيَّةِ للحاجةِ، والنُّصحُ للمسلِمِ.
وفيه: فضْلُ قِيامِ آخِرِ اللَّيلِ.
وفيه: النَّهيُ عن المُستحبَّاتِ إذا خُشِيَ أنَّ ذلك يَفْضي إلى السَّآمةِ والمَلَلِ، وتَفويتِ الحُقوقِ المَطلوبةِ.
وفيه: كَراهيةُ الحمْلِ على النفْسِ في العِبادةِ.
وفيه: الفِطرُ مِن صَومِ التَّطوُّعِ للحاجةِ والمَصلحةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ تَزيُّنِ المرأةِ لزَوجِها.
وفيه: مَنقبةٌ لسَلمانَ الفارسيِّ، حيثُ صَدَّقَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.