باب ضجاع آل محمدﷺ 3
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي أبو زميل، حدثني عبد الله بن العباس
حدثني عمر بن الخطاب، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على حصير، قال: فجلست، فإذا عليه إزار، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرظ في ناحية في الغرفة، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناي، فقال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ " فقلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته، وهذه خزانتك، قال: "يا ابن الخطاب، "ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ " قلت: بلى (2)
ضرَبَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أروعَ الأمثلةِ العَمليَّةِ في الزُّهدِ مع التَّقوى والجِدِّ في الدَّعوةِ إلى اللهِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عمَرُ بنُ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه: "دخلْتُ على رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو على حَصيرٍ، قال: فجلسْتُ، فإذا عليه إزارٌ"، أي: يلبَسُ ثوبًا يستُرُ نِصفَه الأسفلَ وعورتَه، "وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ" وهو الفِراشُ المصنوعُ من ألْيافِ النَّباتِ أو الشَّجرِ أو غيرِ ذلك مِن الصُّوفِ، "قد أثَّرَ في جَنبِه"، أي: ظهَرَت علاماتُ أعوادِ الحَصيرِ على جِلدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه لم يكُنْ بينه وبين الحَصيرِ شَيءٌ مَفروشٌ، "وإذا أنا بقَبضةٍ من شَعيرٍ نحوِ الصَّاعِ، وقَرَظٍ في ناحيةٍ في الغُرفةِ"، أي: في جانبِها، والقَرَظُ نوعٌ مِن الورقِ يُسْتَخْدَمُ لدَبغِ الجُلودِ، "وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ"، أي: جِلدٌ مَدبوغٌ مُعلَّقٌ، "فابْتَدَرت عينايَ"، أي: بكَتْ عينايَ بالدُّموعِ على ما رأيْتُ من شدَّةِ حالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما يُبْكيك يا ابنَ الخطَّابِ؟" قال عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: "فقلْتُ: يا نبِيَّ اللهِ، وما لي لا أبكي، وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلَّا ما أرى"، أي: ليس فيها كثيرُ شَيءٍ ممَّا يَخْزُنُ المرءُ للقُوتِ والادِّخارِ، "وذلك كِسرى وقَيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبِيُّ اللهِ وصَفوتُه، وهذه خِزانتُك. قال: يا ابنَ الخطَّابِ، ألَا تَرْضى أنْ تكونَ لنا الآخرةُ، ولهم الدُّنيا؟ قلْتُ: بلى". وهذا مِن التَّعليمِ والتَّربيةِ النَّبويَّةِ على عُلُوِّ الهمَّةِ، وقُوَّةِ العزيمةِ، وسُمُوِّ المطلَبِ، والاستخفافِ بمَلاهي الحياةِ، والزُّهدِ عمَّا فيها، وتَوظيفِ ما يُقابلُه الإنسانُ مِن الشَّدائدِ والمكارهِ في تَهذيبِ النُّفوسِ والأخلاقِ.
ولو أرادَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَأجْرى اللهُ بينَ يديه ألوانَ النَّعيمِ، ولكان له مِن ذلك أوفَرُ الحظِّ والنَّصيبِ، لكنَّه كان راضيًا بالقَليلِ، قانعًا باليسيرِ، واضعًا نُصْبَ عَينيْه قولَ الحقِّ تبارَكَ وتعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، كما في التِّرمذيِّ من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جلَسَ على المِنبرِ فقال: «إنَّ عبدًا خيَّرَه اللهُ بين أنْ يُؤتيَه من زَهرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عنده، فاختارَ ما عندَه»، فقال أبو بكرٍ: فَدَيناك يا رسولَ اللهِ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا، قال: فعجِبْنا، فقال النَّاسُ: انْظُروا إلى هذا الشَّيخِ يُخْبِرُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن عَبدٍ خيَّرَه اللهُ بين أنْ يُؤتيَه مِن زَهرةِ الدُّنيا ما شاء وبين ما عند اللهِ، وهو يقولُ: فَدَيناك بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! قال: فكان رسولُ اللهِ هو المُخيَّرَ، وكان أبو بكرٍ هو أعلَمَنا به"، وفي كلِّ ذلك سَلْوى وموعظةٌ للفُقراءِ، وعزاءٌ لكلِّ مَسكينٍ، وتَمْتلئُ نُفوسُهم رضًا بقضاءِ اللهِ وقدَرِه.
وسببُ هذا الحديث -كما ورَدَ في الصَّحيحينِ- أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندما أغضَبَه نِساؤُه أقسَمَ: ألَّا يدخُلَ عليهنَّ شَهرًا مُعتزِلهنَّ بذلك القسَمِ، فذَهبَ إليه عُمر رضِيَ اللهُ عنه، وقالَ له ما قال.