باب فى حبس لحوم الأضاحى

باب فى حبس لحوم الأضاحى

حدثنا القعنبى عن مالك عن عبد الله بن أبى بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت سمعت عائشة تقول دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى فى زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقى ». قالت فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « وما ذاك ». أو كما قال قالوا يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إنما نهيتكم من أجل الدافة التى دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا ».

المجتمع المسلم مترابط كالجسد الواحد، متى نزلت بأحدهم نازلة، تكاتف الجميع لإزالتها عنه، وقد راعت الشريعة الإسلامية المطهرة أحوال المجتمع عند الفقر والغنى، فشرعت ما ييسر عليه ويعينه
وفي هذا الحديث يخبر التابعي عبد الله بن واقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه رضي الله عنهم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فأمرهم أن يأكلوا لثلاثة أيام، ثم يتصدقوا بما بقي، والأضحية: اسم لما يذبح من بهيمة الأنعام تقربا إلى الله عز وجل في عيد الأضحى، وهي عبادة مؤقتة، يدخل وقتها بعد صلاة العيد وخطبته، ويستمر حتى غروب شمس آخر أيام التشريق اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة
وأخبر التابعي عبد الله بن أبي بكر أنه ذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية -وهي من فقهاء التابعين- فقالت عمرة: صدق، أي: في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخبرت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دف أهل أبيات من البادية، وهم ساكنو الصحراء، حضرة الأضحى، أي: وقت عيد الأضحى، وكان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنهم أقبلوا من البادية بسبب ضيق أحوالهم، والجوع الذي أصابهم؛ رجاء أن يحصلوا على شيء من اللحم عند دخول عيد الأضحى، و«الدف» هو سير سريع وتقارب في الخطى، وقيل: المشي الخفيف، ولعل هذا كان لأجل حضور الأضاحي والحوز من لحومها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يأكلوا من لحوم أضاحيهم لثلاثة أيام، ثم يتصدقوا بما بقي، «فلما كان بعد ذلك»، أي: في العام التالي، ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا ينتفعون بادخار الأضاحي، فقالوا: «يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم»، والسقاء هو وعاء كانوا يصنعونه من جلود الأضاحي، «ويجملون» أي: يذيبون منها «الودك» وهو دسم اللحم ودهنه، والمراد: أنهم كانوا يذيبون الدهن ويحتفظون به في أسقية الجلد، كأنهم رأوا أن اتخاذ الأسقية من جلود الأضاحي وإذابة شحومها منهي عنه، قياسا على النهي عن أكل لحومها؛ ولذلك سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما ذاك؟»، أي: ما الذي جعلكم تقولون هذا؟ «قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، ويعني بهم المساكين الذين قدموا المدينة؛ أما الآن «فكلوا» من لحومها «وادخروا» أي: واحفظوا منها ما شئتم «وتصدقوا» منها ما شئتم، فارتفع حكم النهي لكم بارتفاع سببه، وهو الرأفة على الدافة؛ فإنما نهيتكم عن الادخار فوق ثلاث لتواسوهم، وتتصدقوا عليهم، فأما وقد وسع الله عليكم ولا توجد ضائقة، فادخروا ما بدا لكم
وفي الحديث: الحد والمنع من بعض المباحات؛ للضرورة وللمصحلة العامة إذا رآها الحاكم المؤتمن
وفيه: أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما؛ فإنه منع من الادخار لمعنى وعلة، وهي الدافة، فلما زال هذا المعنى وهذه العلة سقط الحكم، وإذا ثبت هذا المعنى ووجدت هذه العلة في أي وقت فللإمام العمل بهذا الحكم؛ توسعة على المحتاجين