‌‌باب ما جاء في الإفاضة من عرفات

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الإفاضة من عرفات

حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا وكيع، وبشر بن السري، وأبو نعيم قالوا: حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر - وزاد فيه بشر: - وأفاض من جمع وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة، - وزاد فيه أبو نعيم: - وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف، وقال: «لعلي لا أراكم بعد عامي هذا» وفي الباب عن أسامة بن زيد.: «حديث جابر حديث حسن صحيح»
‌‌

السَّكينةُ والوَقارُ مِنَ الصِّفاتِ الحَميدةِ الَّتي حَثَّ عليها الشَّرعُ، خُصوصًا في العِباداتِ والمواطنِ الَّتي تَستَدْعي التَّحلِّيَ بها أكثَرَ من أيِّ وقتٍ آخَرَ، كالحجِّ؛ لما فيه من كَثرةِ النَّاسِ والزِّحامِ، وذلك يتطلَّبُ التَّوسُّطَ وعدمَ الغُلوِّ في السَّيرِ بسُرعةٍ حتَّى لا يَتأذَّى النَّاسُ.
وفي هذا الحَديثِ يَذكُرُ الفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يركَبُ خلفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على دابَّتِه وهو في موسِمِ الحجِّ في آخِرِ يومِ عَرفةَ، وهو اليومُ التَّاسِعُ من ذي الحِجَّةِ عندَ الدَّفعِ إلى مُزدَلِفةَ، و«عَشِيَّةَ عَرفةَ» قيلَ: هي بعدَ غُروبِ الشَّمْسِ؛ لأنَّ هذا هو وَقْتُ دفْعِ الإمامِ ووقْتُ الفِطرِ.

وقيلَ: إنَّه وَقْتُ الوَقْفةِ مِن بعدَ الزَّوالِ إلى فَجرِ يومِ النَّحرِ؛ لأنَّه وقْتُ وُقوفٍ وإتيانٍ إلى عَرفةَ على هذه الصِّفةِ.

وقيلَ: العَشيَّةُ مِنَ الزَّوالِ إلى غُروبِ الشَّمسِ. وعَرَفةُ هو اسمٌ للبُقعةِ المعروفةِ الَّتي يجِبُ الوقوفُ بها يومَ التَّاسعِ من ذي الحِجَّةِ. وجَمعٌ هي المُزدَلِفةُ، وهي وادٍ يقَعُ بينَ مَشعَريْ منًى وعَرَفاتٍ ويَبيتُ الحجَّاجُ بها بعدَ نَفْرتِهم من عَرَفاتٍ، ثُمَّ يُقيمونَ فيها صَلاتَيِ المغرِبِ والعِشاءِ جمعًا وقَصرًا، ويجمَعونَ فيها الحَصى لرَميِ الجَمَراتِ بمنًى، ويمكُثُ فيها الحجَّاجُ حتَّى صباحِ اليومِ التَّالي يومِ عيدِ الأضْحى ليُفيضوا بعدَ ذلك إلى منًى.
فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للنَّاسِ: «عليكم بالسَّكينةِ»، وهذا إرْشادٌ نَبويٌّ إلى الأدَبِ والسُّنَّةِ في السَّيْرِ مِن عَرَفةَ، ومِن مُزدلِفةَ، ويَلْحَقُ بذلك سائرُ مَواضعِ الزِّحامِ. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يمنَعُ ناقَتَه مِنَ الإسْراعِ في الزِّحامِ ويُحرِّكُ دابَّتَهُ بِبُطْءٍ، وهذا تَطبيقٌ عَمليٌّ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمَشيِ بهُدوءٍ وسَكينةٍ دونَ إسْراعٍ في الزِّحامِ، وظلَّ كذلك حتَّى دخَلَ واديَ مُحَسِّرٍ، وهو وادٍ صغيرٌ يمُرُّ بينَ منًى والمزدَلِفةِ، فاصلًا بينَهما.
فلمَّا دخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وادِيَ مُحَسِّرٍ قال للنَّاسِ مُرشِدًا ومُبيِّنًا حجمَ الجمارِ الَّتي يجمَعونَها: «عليكم بحَصَى الخَذْفِ»، وهو صغارُ الحَصى نَحوُ حَبَّةِ الباقِلَّاءِ، وفي رِوايةٍ: «والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُشيرُ بيَدِهِ كما يَخذِفُ الإنْسانُ»، والمَقصودُ الإيضاحُ وزيادةُ بيانِ حَجمِ الحَصَى الَّذي يُرْمَى به في الجَمَراتِ، وأنَّه يكونُ صغيرًا، مِثلَ حَصَى الخَذْفِ، وليس المَقصودُ أنَّ الرَّميَ يكونُ على هَيْئةِ الخَذْفِ، وهو الرَّميُ بطَرفَيِ الإبهامِ والسَّبَّابةِ.
وأخبَرَ الفَضْلُ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يزَلْ يُلبِّي، حتَّى فرَغَ من رَمْيِ جَمرَةِ العَقَبةِ يومَ النَّحرِ في اليومِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، وعِندَ ذلك قطَعَ التَّلبيةَ. وهي الجَمرةُ الكُبرَى، غَرْبيَّ مِنًى ممَّا يَلي مَكَّةَ. وصِيغةُ التَّلبيةِ: «لَبَّيكَ اللَّهمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لَبَّيكَ، إنَّ الحمْدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شَريكَ لكَ»، ويَبدأُ وقْتُ التَّلبيةِ عندَ الإحْرامِ بالحجِّ أوِ العُمرةِ.
وفي الحَديثِ: بيانُ حِرصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على النَّاسِ وإرْشادِهم في المواطِنِ الَّتي تَحتاجُ ذلك.
وفيه: أنَّ حَجمَ الجِمارِ يكونُ صَغيرًا، والرَّميَ بها يكونُ رَفيقًا حتَّى لا يؤْذيَ النَّاسُ بعضَهم بشدَّةِ الرَّميِ، ولا بكِبَرِ حَجمِ الحَصى.