‌‌باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت3

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت3

حدثنا قتيبة، عن مالك، ح وحدثنا إسحاق بن موسى قال: حدثنا معن قال: حدثنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمرة، أنها أخبرته، أنها سمعت عائشة وذكر لها أن ابن عمر، يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه، فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها، فقال: «إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها»: هذا حديث صحيح
‌‌

قال اللهُ تعالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فلا يَحمِلُ العَبدُ إلَّا وِزْرَه، وما عَمِلَتْه يَدُه، وهذا مِن عَدْلِه تعالَى، وهو أصلٌ مُهمٌّ مِن أُصولِ الإسْلامِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي التَّابِعيُّ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ، أنَّه لَمَّا سمِعَتْ أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يَرفَعُ حَديثًا، ويَنسُبُه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّه قال فيه: «إنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ في قَبرِه ببُكاءِ أهْلِه»، قالت عنه: «وَهَلَ» -بفتْحِ الهاءِ- ابنُ عُمَرَ، أي: نَسِيَ، ويُرْوى بكسْرِ الهاءِ، بمعنى: أخطَأَ، وإنَّما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أحَدِ الأمْواتِ: «إنَّه لَيُعَذَّبُ بخَطِيئَتِه وذَنْبِه» في قَبرِه، «وإنَّ أهْلَه لَيَبْكُونَ عليه الآنَ»، أي: إنَّ أهْلَه يَبْكُونَ عليه وهو يُعذَّبُ بخَطيئتِه، فالسَّببُ في تَعذيبِه ليس بُكاءَ أهْلِه عليه، وإنَّما ذُنوبُه وخَطاياهُ.
لكنْ قدْ صَحَّ ما نقَلَه ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا، وهو مَحمُولٌ على ما إذا أوْصى الميِّتُ أهْلَه بالنُّواحِ عليه، وهو المَقْصودُ بالبُكاءِ، فإنْ لم يُوصِ؛ فإنَّه لا يُعذَّبُ بنُواحِهم عليه.
ثمَّ ذكَرَتْ أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها مِثالًا آخَرَ رَأتْ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما نَسِيَ -أو أخْطَأ- فيه، ونقَل خِلافَ ما قالَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك عندَما قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القَليبِ، وهو البِئرُ الَّتي أُلْقِيَ فيها قَتْلى المُشرِكينَ يومَ بَدرٍ، وقد كلَّمَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال لهم: هلْ وجَدْتُم ما وعَدَ ربُّكم حقًّا؟ فنقَل ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: «إنَّهم لَيَسْمَعونَ ما أقولُ»، فتَقولُ أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها: إنَّه أخْطأَ في نَقلِه هذا، وإنَّ صَوابَه: «إنَّهم لَيَعْلَمونَ ما أقولُ»، فنَفَت عنهمُ السَّماعَ حالَ كَوْنِهم أمْواتًا في قُبورِهم، ثمَّ استَدَلَّت رَضيَ اللهُ عنها على ذلك بقَولِه تعالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، حينَ تَبَوَّؤوا مَقاعِدَهم منَ النَّارِ، أي: حينَ أخَذوا مَقاعِدَهم في النَّارِ، وقيلَ في ذلك: إنَّ عِلمَهم لا يَمنَعُ مِن سَماعِهم، ولم تَستنِدْ أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها في ذلك إلى حَديثٍ سَمِعَتْه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بلِ استَنبَطَت ذلك مِن الآيَتَينِ الكَريمَتَينِ، وفي الاستِدْلالِ بهما نظَرٌ، وأُجيبَ عنِ الآيةِ: بأنَّ الَّذي يُسمِعُهم هو اللهُ تعالَى، والمَعنى: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُسمِعُهم، ولكنَّ اللهَ أحْياهُم حتَّى سَمِعوا؛ لأنَّ إسْماعَهم بعْدَ مَوتِهم خَرقٌ للعادةِ، واللهُ عزَّ وجلَّ هو مَن بيَدِه خَرقُ العاداتِ، قال تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
وفي الحَديثِ: أدَبُ أمِّ المؤمِنينَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وحُسنُ تَعامُلِها معَ مَن تَختَلِفُ معَه.
وفيه: أنَّ رَأيَ الصَّحابيِّ إذا خالَفَ النَّصَّ، فلا اعْتِدادَ به.
وفيه: دَليلٌ على حِرصِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم على صحَّةِ نَقلِ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ.