‌‌باب ما جاء في الشفاعة6

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الشفاعة6

حدثنا هناد قال: حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا» وقد روي عن أبي المليح، عن رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عن عوف بن مالك

أعطى اللهُ سُبحانَه نَبيَّه مُحمَّدًا فضلًا عظيمًا، وكرَّمَه وفضَّلَه على سائِرِ الأنبياءِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وقد نالت أُمَّتُه من ذلك الفَضلِ الشَّفاعةَ في الآخِرةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ عوفُ بنُ مالكٍ الأشجعيُّ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "أتدرونَ ما خيَّرَني ربِّي اللَّيلةَ؟" وفي روايةِ التِّرمذيِّ: "أتاني آتٍ من عندَ ربِّي"، فيَحْتَمِلُ أنْ يكونَ جبريلُ عليه السَّلامُ أتاهُ بوحيٍ من اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أو أو تكونَ رُؤيةً رآها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَنامِه. "قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: فإنَّه خَيَّرني"، أي: جعَلَ الخِيَرةَ والاختيارَ إليَّ، "بين أنْ يُدْخِلَ نِصفَ أُمَّتي الجنَّةَ" المُرادُ: مِن الَّذين يستحِقُّونَ العذابَ؛ إذِ الَّذين لا يستحِقُّونَه داخلونَ الجنَّةَ، وسكَتَ عن النِّصفِ الثَّاني؛ فقيل: إنَّهم يُعَذَّبونَ ولا شفاعةَ لهم، ويَحْتَمِلُ أنَّهم مَوكُولونَ إلى رحمةِ اللهِ وعَفْوِه، وإنَّما سِيقَ الحديثُ لإفادةِ تَخييرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُدْخِلَ اللهُ الجنَّةَ نِصْفَ أُمَّتهِ، أو لا تَبْقى له شَفاعةٌ، "وبين الشَّفاعةِ"، أي: خيَّرني بين بين أنْ يُدْخِلَ نِصفَ أُمَّتي الجنَّةَ وبين الشَّفاعةِ، وشفاعتُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تكونُ للمُذْنبينَ مِن الموحِّدين، أو في إدخالِ الجنَّةِ من غيرِ حسابٍ، أو رفْعِ الدَّرجاتِ يومَ القيامةِ، كلٌّ بحسَبِ حالِه.
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "فاخترْتُ الشَّفاعةَ"، وهذا دَليلٌ على أنَّها أوسَعُ في شُمولِها من النِّصفِ، وأنَّها تشمَلُ أُمَّةَ الإجابةِ أجمعينَ، "قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يجعَلَنا من أهْلِها"، أي: نكونَ ممَّن تشفَعُ فيهم، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "هي لكلِّ مُسلِمٍ"، أي: فاثْبُتوا على الإسلامِ على الدَّوامِ حتَّى تَنالوها، والمُرادُ بالإسلامِ هو هذا الدِّينُ. وهذه الشَّفاعةَ الَّتي خُيِّرَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها غيرُ الشَّفاعةِ العُظمى في فَصلِ القضاءِ بين العِبادِ.
وأمَّا حديثُ أبي داودَ والتِّرمذيِّ: "شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ مِن أُمَّتي" وما في معناه؛ فإنَّه نَصٌّ في بعضِ أفرادِ هذا العامِّ، ولا يُبْطِلُ العامَّ، وإنَّما فيه بيانُ أنَّهم أحقُّ النَّاسِ بشفاعتِه.
وفي الحديثِ: بَيانُ كرامةِ النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على اللهِ، وبيانُ فَضلِ اللهِ على أُمَّةِ الإسلامِ.
وفيه: الحثُّ على الثَّباتِ على الإسلامِ والإيمانِ لنَوالِ الشَّفاعةِ.