‌‌باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان

حدثنا نصر بن علي الجهضمي، وأبو عمار والمعنى واحد واللفظ لفظ أبي عمار قالا: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: أتاه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «وما أهلكك؟»، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هل تستطيع أن تعتق رقبة؟»، قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»، قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟»، قال: لا، قال: «اجلس»، فجلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، والعرق المكتل الضخم، قال: «تصدق به»، فقال: ما بين لابتيها أحد أفقر منا، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: «فخذه، فأطعمه أهلك» وفي الباب عن ابن عمر، وعائشة، وعبد الله بن عمرو.: «حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح»، " والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في من أفطر في رمضان متعمدا من جماع، وأما من أفطر متعمدا من أكل أو شرب، فإن أهل العلم قد اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: عليه القضاء، والكفارة، وشبهوا الأكل والشرب بالجماع، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق «،» وقال بعضهم: عليه القضاء ولا كفارة عليه، لأنه إنما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة في الجماع ولم تذكر عنه في الأكل والشرب، وقالوا: لا يشبه الأكل والشرب الجماع، وهو قول الشافعي، وأحمد "، وقال الشافعي: " وقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أفطر فتصدق عليه خذه فأطعمه أهلك يحتمل هذا معاني: يحتمل أن تكون الكفارة على من قدر عليها، وهذا رجل لم يقدر على الكفارة، فلما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا وملكه، فقال الرجل: ما أحد أفقر إليه منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فأطعمه أهلك، لأن الكفارة إنما تكون بعد الفضل عن قوته «،» واختار الشافعي لمن كان على مثل هذا الحال أن يأكله وتكون الكفارة عليه دينا، فمتى ما ملك يوما ما كفر "
‌‌

رَمَضانُ شَهرٌ كَريمٌ، وصيامُه فَرْضٌ على العاقِلِ البالِغِ القادِرِ، وللفِطْرِ العَمْدِ فيه أحكامٌ، وفي هذا الحَديثِ بيانٌ للكَفَّارةِ لِمن جامَعَ أهْلَه في نهارِ رَمَضانَ، فيروي أبو هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالَ: «هَلَكْتُ!» أي: فَعَلْتُ ما هو سَبَبٌ لِهَلاكي، فسَألَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما شَأنُك؟» فأخبر أنَّه جامع امرأتَه في نهارِ رَمَضانَ، فسَألَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن استطاعتِه أنْ يُعتِقَ رَقبةً، ويُرادُ بها العبْدُ المملوكُ أو الأَمَةُ، فقالَ: لا أسْتَطيعُ، فسَألَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن استطاعتِه أنْ يَصومَ شَهْرَينِ مُتَتابِعَين، لا يَفصِل بيْنَ الشَّهرَيْنِ بأيَّامِ فِطْرٍ لغيرِ عُذرٍ، فقالَ: لا أسْتَطيعُ، فسَألَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن استطاعَتِه أن يُطعِمَ سِتِّين مِسكينًا، قال: لا، فأوضَحَ الرَّجُلُ أنَّه فقيرٌ وعاجِزٌ عن أداءِ أيٍّ من أنواعِ الكَفَّاراتِ الثَّلاثةِ.
فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له: «اجْلِسْ»، وإنما أمره بالجُلوسِ لانتظارِ الوَحْيِ في حَقِّه، وقيل: أو عرَف أنَّه سيؤتى بشَيءٍ يعينُه به، فانتظَرَ الرَّجُلُ حتى أُتِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، والعَرَقُ: المِكتَلُ أو الوِعاءُ الضَّخمُ يَسَعُ خَمْسةَ عَشَرَ صاعًا، والصَّاعُ يُساوي بالجرامِ (2036) في أقلِّ تَقديرٍ، وفي أعْلى تَقْديرٍ يُساوي (4288) جرامًا، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له: «خُذْ هذا» العَرَقَ بِتَمْرِه «فتَصدَّقْ به» على الفُقَراءِ والمحتاجين، فقال الرَّجُلُ: «أعلى أفْقَرَ منَّا؟!» أي: أتصَدَّقُ به على شَخصٍ أفقَرَ مِنَّا؟! كأنَّه قال: ليس هناك في المدينةِ من هو أفقَرُ مِن أهلِ بيتي، فأنا أَوْلى بهذه الصَّدَقةِ من غيري، فضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى ظَهَرَت «نَواجِذُه» وهي آخِرُ الأسنانِ أو هي الأضراسُ؛ تَعجُّبًا مِن حالِه؛ حيث إنه جاءه خائفًا على نَفْسِه راغبًا في فدائِها، فلمَّا وجد الرُّخصةَ طَمِعَ أن يأكُلَ ما أُعطِيَه من الكَفَّارةِ! وقيل: ضحك مِنْ حسْنِ بيانِ المتكَلِّمِ وتلَطُّفِه في الخِطابِ وتوَسُّلِه في التوَصُّلِ إلى مَقصِدِه.

ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أطعِمْه عِيالَك».
وفي الحَديثِ: أنَّ كَفَّارةَ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ مُرَتَّبةٌ إعتاقًا، ثُمَّ صَومًا، ثُمَّ إطعامًا.
وفيه: إعانةُ المُعسرِ في الكَّفارةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ المُبالَغةِ في الضَّحكِ عندَ التَّعجُّبِ.
وفيه: استِعمالُ الكِنايةِ فيما يُستَقْبَح ظُهورُه بصَريحِ لَفظِه.
وفيه: الرِّفقُ بالمُتعلِّم، والتَّلطُّفُ في التَّعليمِ، والتَّأليفُ على الدِّين.
وفيه: النَّدمُ على المَعصيةِ، واستِشعارُ الخَوفِ.